ساحات الفرح الخالية

ليس هذا العنوان مرشداً سياحياً لمعرفة الطريق الذي يربط المدينة بـ (أوابد) الحزن.. ولم تك هناك رغبة في بثّ رذاذ الألم بين الناس.. بل يمكننا القول إن الكوميديا السوداء حققت نجاحاً منقطع النظير، وأزاحت من طريقها الكوميديا البيضاء، وفرطت عقد الصداقة التاريخية بينهما. ولن تعودا كما كانتا مثل نهر لا تنقطع مياهه على مدار الفصول الأربعة!

حملتُ معول الكلمات.. نكشتُ في صدور الناس.. بحثتُ عن أوجاع القلوب، فكانت الشرايين مغلقة ومتكلّسة، فعدتُ أحمل خيبة مُرَّة، ومن كثرة تكرارها تحوَّلت إلى مرض مزمن!

لقد تقلَّصت مساحة الكوميديا البيضاء إلى درجة أنني لم أعد أجد مكاناً لرأس إبرة لأخيط بعض الأمل وأرسم يعض النقوش والرسوم المتفائلة!

قال أحد الناشطين في حقول الأدب الساخر: لم أعد أمتلك الجرأة التي كانت قبل الأزمة، تشكل السلاح الوحيد لعكس الحياة السياسية والاجتماعية، بسخرية تحوّل الألم إلى ابتسامات على ثغور الناس، والحزن إلى فرح يرفع الرايات لغد مشرق وأمل لن تقدر الرصاصات الغادرة أن تخترق جسده.

قلت والوجع النائم من خَدرٍ في فترة تقنين الكهرباء، الذي تحوَّل إلى أنين وعتمة وبحث عن موجة هواء تجفف عرقنا.. قلتُ: هناك مفارقة شاسعة بين الكوميديا السوداء والكوميديا البيضاء، كالفرق بين قصر منيف على ضفة نهر، يقابله في الضفة الأخرى بيت من قصب وطين وعائلة مؤلفة من عشرة أفراد، يبحثون عن الأسماك الصغيرة وعن أحلام الجدود الذين كتبوا وصاياهم بأن ذهباً كثيراً في قاع النهر.. وهذا كل ما تركوه  للورثة!

الفرق بين الاثنتين في ظل أزمة رفعت عدد الفقراء إلى قمة الخط البياني، كالفرق بين غسيلين على شرفتين في حيين، الأول من الأحياء الراقية والثاني من الأحياء البائسة.

أرى أن مائدة الأزمة التي يتجمَّع حولها المطحونون من نتائجها، والمؤمنون بزوالها بعد أن تزول الأسباب التي صنعتها.. أرى أن  كثافة الألم أصبحت مرتفعة جداً في السنتيمتر المربع الواحد. أما صحراء الفرح فهجرها الناس بسبب القحط والجفاف والبحث عن خضرة وفاكهة وخبز وعمل، والبحث عن نافذة يعود الأمل يطل منها، ربما يأتي من يبشر بالفرج ويفتح الطريق إلى الجُزر النائية في أعماق المحيطات.

كثيرون وكثيرون جداً، يمضغون الوجع كما يمضغون الطعام بعدد ساعات اليوم .. ولم يجدوا مساحة لرأس إبرة، في ليل العاصمة المعتم بلا كهرباء، تضيء الطريق  وترشدنا إلى رصيف أو حافة نرتاح عليها، وانتظار زوال هذا السواد وانتهاء ساعات التقنين. وإشعال شمعة فرح ربما بعد أن تذوب، يذوب جليد الروح ويظهر القلب محاطاً بورود حُمرٍ..!

قال من تركوا بيوتهم وذهبوا إلى البحر في عطلة عيد الفطر: إن البحرَ كان يضحك بسعادة لا مثيل لها، وإن أمواجه كانت تزغرد وهي ترتطم بالشاطئ. وإن ألوان عيون الناس سرقت الزرقة منه.. وأضاءت شاشات الفضائيات أنوار الفرح، وقالت: إن الطُّرق آمنة والجيش يحميها ويحرسها.. واخترق الفرح طبقات الحزن الكتيمة وفاضت مياه السعادة بغزارة، لتروي قلوب الفقراء الذين بدؤوا يبتاعون البطيخ بعد أن فاض الإنتاج وملأ الأسواق، وأصبح الخبز يباع في كل مكان بأسعار مضاعفة، وهبط منسوب الحزن وازدادت غزارة مياه نهر الفرح.. وبدأت غيوم الكوميديا البيضاء توزع نورها في فضاءات البيوت المحيطة بالمدينة وأزقتها.

إن الكوميديا السوداء تتماهى مع الكوميديا البيضاء في أزمة متفاقمة، كمن يجعل المتلقي يبكي من فرط الضحك، ويضحك من فرط الألم..!

العدد 1140 - 22/01/2025