من مذكرات قطّة نباتية

هذه الأوراق طيّرَتْها الريح من مسكن القطة التي كانت تسكن هي وأولادها على سطح المنزل المقابل لمنزلنا، ولجهلنا بلغة القطط فقد اعتمدنا على ترجمان محلف مختص بلغة النياو نياو لفك شيفرتها…

كتبت القطة التي لا اسم لها، إذ إن قطط الأحياء الفقيرة لا أسماء لها مثلما لأبناء جلدتها في الأحياء المترفة:

ولدتُ هنا من أم ما زالت تلقط رزقها من حاويات الحي المجاور، وكثيرا ما نلتقي مصادفة ونحن في غمرة نبشنا لقمامة حيّهم، حين نفقد الأمل في العثور على ما يقيم أودنا من هذا الحي.. أما الأب فمجهول لأن من عادة (رجالنا) أن يبذروا الأولاد ثم يتركوا شقاء الحمل والولادة والتربية على الأم.

حاولتُ كثيراً الخروج من هذا الحي إلى أحياء أخرى تتوفر فيها شروط أفضل للإقامة والطعام، لكني فشلت، لا بسبب منع أو حواجز لا سمح الله، فنحن القطط يسمح لنا بالتنقل حتى في خطوط التماس، ولا يسأل عن هويتنا أو ديننا أو طائفتنا  أحد، لكني كنت أعود كل مرة بسبب الحنين، نعم، الحنين إلى مسقط رأسي، ألم يقل شاعر من بني البشر منذ زمن بعيد:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزل

أما زوجي المفترض، أبو أولادي، فقد تركنا منذ زمن ورحل إلى حي الأكابر، وقد سمعت من بعض الذين رأوه مرة أن وبره أصبح نظيفاً وصحته ممتازة، ولديه اسم جميل، وأن الفتيات يدللنه ويطعمنه معلبات شهية ويحمّمنه بأيديهن…لكن قد تستغربون إذا اعترفت بأني ما زلت أخاف عليه من السيارات المسرعة التي تقطع شوارع ذلك الحي، يقودها فتية صغار طائشون، وأتمنى لو استطعت الاطمئنان عليه كل فترة…

تحمَّلنا فقر الحال الناتج عن فقر الناس هنا، فقمامتهم لا تحوي سوى القليل القليل من عظام الفروج، أما عظام الغنم فهي نادرة، بل تكاد تكون معدومة.

تخيّل أنه لا يوجد لحّام في الحي كله، وحتى نشم رائحة اللحم علينا قطع مسافة كيلومترات إلى الأبراج العالية المطلة على الحي لنبحث عن لحام هناك…

تحملنا شظف العيش وسوء معاملة الكثيرين من أهالي الحي الذين يضيقون ذرعاً بكثرة عددنا، مع أن معظمهم ينجب أكثر منا سيراً على مقولة أسمعهم يرددونها فرحين: (تناسلوا فإني مفاخر بكم الأمم…).

كما سمعت من يردد منهم أن (فراش الفقر مخصب)، ويبدو أنه كذلك فعلاً… فهؤلاء الفقراء والمعدمون تجد بيوتهم الضيقة مكتظة بالأطفال الذين يملؤون بيوتهم والشوارع صخبا وضجيجاً، بينما قصور اولئك الأغنياء تجد فيها لا أكثر من طفلين أو ثلاثة يفرغون ضجرهم في ألعاب الكومبيوتر والنت وتربية الحيوانات الأليفة مثلنا.

لكن مع بدء الحرب التي أسمع أصوات مدافعها وقذائفها تهز المدينة كل يوم، زادت احوالنا سوءاً، حاولنا أن نقنع أولادنا بتحمّل الوضع الطارىء ريثما يقوم اهل الحل والربط بالمصالحات وإيقاف الحرب، أوشكوا على الموت جوعاً، بعد أن فرغت قمامة الحي من أي أثر للعظام أو حتى المعلبات، فعرضوا علي مراراً الهجرة الشرعية إلى أحياء ما زال فيها رمق، أو الهجرة غير الشرعية إلى دولة مجاورة حيث الأوضاع مستقرة هناك، لكني بقيت على رفضي مغادرة هذا الحي الذي لا أستطيع فراقه، فتركني الأولاد وتوزعوا في أصقاع الأرض، وبقيت وحدي أبحث في شوارع الحي عمن يجود عليَّ بأي شيء.

اهتديتُ أخيراً إلى عائلة حنونة، كلما سمع أحدهم موائي سارع إلى تقديم ما تيسر من غذاء لا يحوي أثراً للحوم طبعا، فكانت فضلات الألبان والأجبان هي ما تجود بها هذه العائلة الكريمة علي، لكن يبدو أن أوضاعهم تدهورت أكثر، فصاروا يكتفون بفتافيت الخبز ثم الخضار المطبوخة، وهكذا تحولت شيئاً فشيئاً إلى كائن نباتي، لا أطيق رائحة اللحوم والدهون، ويسيل لعابي على صحن فتوش أو مجدرة بالزيت والبصل، وحين يضيق بي الحال أسارع إلى بائعي الخضار الذين يرمون كثيراً من ورق الخس التالف والخضار المنتهية الصلاحية، فأتلقفها بفرح وأتحسّر على أولادي الذين لم يعيشوا هذا التحوّل الجميل من كائن لاحم إلى نباتي.

لست الوحيدة في هذا التحول البيولوجي، بل يشاركني الكثير من أترابي معشر القطط ممن رفض مغادرة البلاد وبقي متمسكاً بها رغم الحرب والخراب والفقر.

صحيح أننا فقدنا أنيابنا، وتغيرت طباعنا، ونسينا وظيفة مخالبنا أيضاً، فصرنا نضع عليها المناكير بدلاً من استعمالها للدفاع عن أنفسنا وخوض المعارك مع القطط الغازية، لكن الحمدلله أننا بقينا على قيد الحياة، ولا داعي للمزيد من المواء.

(صورة طبق الأصل).

العدد 1140 - 22/01/2025