ما تقوله الحديقة
حين تُذكر الحديقة سرعان ما يتبادر إلى الذهن أشجار وورود وعشب، وبعض روّادها، أطفال مع أهاليهم، عجزة وشيوخ ومقاعد خشبيّة، وربّما يجيء شبّان وصبايا، يتنحّون بعيداً في جلسات خاصة تحت الأشجار أو فوق المروج. لكنّ أموراً قد لا تخطر على بال، أوّل الأمور تلك هو أن كل ما ذكرناه يشكّل في مجموعه الحديقة، فالحديقة هي الأشجار والعشب والناس والمقاعد والهواء والموسيقا والطيور. وفي غياب أي مكوّن من تلك المكوّنات الكثيرة تبدو الحديقة ناقصة، إذ كيف نتخيّل حديقة من دون فتية صغار يبيعون الحلوى والجرائد؟ كيف تكون الحديقة حديقة دون أن تقسمها ظلال الأشجار، وتفرز مقاعدها بين مشمسة خالية وظليلة ممتلئة؟
هل تبقى الحديقة في وجود طلاب المدارس وفوضاهم هي ذاتها بعد مغادرتهم المروج والأزهار والأراجيح؟ وهل ذاك المكان الموحش أواخر الليل هو ذاته وقت الغروب؟ لا يمكن لمكان أن يأخذ معناه في غياب روح الأشياء الفاعلة والمكمّلة لذلك المعنى. فالحدائق في الشتاء ليست حدائق، وإنّما أمكنة فقط، فراغات ممتدّة بين الأبنية، وفي محاذاة الشوارع. مساحات تنتظر الربيع والصيف لتعود إليها الأرواح وتجعل منها حدائق.
في الشتاء يقولون عن الأشجار إنها عارية، يقولون ذلك ويكتفون بصفة العري، وذلك وصف غير دقيق، فالعري أولاً صفة للبشر، وحين نستعملها مجازاً نجرّدها من معظم معانيها، فالعري لا يفقد الإنسان جماله ولا حركته، وإنما يعيده إنساناً حقيقياً دون زيف. أما الأشجار فأمرها مختلف، عريها ينزع عنها معظم صفاتها، ويجعل منها كياناً قابلاً لأن يصير شجرة حين تدور دورة الطبيعة وتكتمل تفاصيلها كلها. فالروح الكامنة في الجذوع والأغصان الحيّة سرعان ما تتبدّى في الربيع على هيئة براعم تنمو وتمتدّ وتمتلئ بالأوراق والزهور. حينذاك فقط يصير ذاك الكائن البارد شجرة حيّة دافئة.
لا الأصيص دون ورد أصيص، ولا القفص دون عصفور قفص. وكذلك الحديقة تماماً، لا بدّ من استكمال العناصر لتصير للأشياء معانيها، هو استكمال أوّلي وأساسي، وقد تزداد جماليات الأشياء مع وجود مكوّنات أخرى، تضفي على المعنى ثراء وغنى، فالقفص المفرد بعصفور واحد لا يحمل المعنى ذاته حين يضمّ عصفورين، أو حين يجاور عدّة أقفاص بعصافير أخرى. ولا الأصيص المفرد بزهرة واحدة، وعلى شرفة عالية، كأصيص في مشتل أزهار. الحديقة أيضاً في صباح صيفي هي غيرها في غروب أو مساء.
الحديقة قفص واسع مفتوح على عشرات، وربّما مئات العصافير، وهي أصيص واسع أيضاً، لا يمكن لشرفة أن تحتويه. وإن كان بعض الميسورين يحاولون تشكيل حديقة منزلية صغيرة، فهم واهمون، فرواد الحدائق المختلفون في الأجناس والأعمار والرغبات والهواجس، هم مكوّن رئيس من مكوّنات الحديقة. الحديقة عالم آخر، طبيعة أخرى، حتى لتكاد تكون غابة دون تضاريس. وإذا أردنا التفكير بالعلاقات التي تقوم بين تلك الأجزاء والمكوّنات فذلك موضوع آخر، موضوع قائم على دراسة طبيعة تلك الأجزاء، فهناك تقاطعات كثيرة بين الشجر والطيور، بين الأزهار والبشر، بين البشر أنفسهم، وبينهم وبين الجمادات أيضاً، فكم من عاشق حفر اسمه واسم معشوقته على جدار، أو على جذع شجرة ضخمة! وكم من الكتب والدفاتر حملت بين طيّاتها زهرة أو ورقة شجر!
للحدائق أرواح كما للبشر، فهي لا تعيش دون هواء ودون شمس، لا تعيش حياتها الطبيعية دون ماء وطيور وبشر، وللموسيقا أيضاً فعلها في اكتمال المعنى، لشغب الأطفال، لمشاكسة الباعة الجوّالين، لصرير الجنادب ورفرفة الفراشات، حتى للدهان المقشّر على المقاعد النائية، كل تلك التفاصيل هي التي تجعل من المكان حديقة. هكذا تقول الحدائق.