اليَمين واليَسَار والعشوائيَّة السياسيَّة
يساري، يميني، تقدمي، رجعي، تلك كانت من أوائل التعابير والكلمات التي طرقت أسماعنا في مجال الثقافة السياسية، التي تعلمناها من خلال المنشورات والأدبيات والشعارات لأغلبية الأحزاب التي عرفناها في بداية وعينا السياسي، يومذاك فهمنا أنَّ كلَّ من يكون عاملاً فقيراً، وكلّ من لا يهتم بالطقوس الدينية، وكل من يعارض السلطة، يكون يسارياً تقدمياً، وكل رب عمل، أو مكتنز مادياً، أو ملتزم دينياً، أو موالٍ للسلطة، هو يمينيٌ رجعيٌ، وصرنا نطلق هذه الأوصاف جزافاً وعشوائياً على المحيطين بنا، لنمدح أو نذمّ من نتفق أو نختلف معهم في الرأي وفي الموقف السياسي، وربما كانت أغلبها غير صحيحة، هكذا ورثناها، وتابعنا العمل بها، دون أسس أو قواعد حقيقية لهذه المفاهيم.
تلك المفاهيم وما يشابهها من الأفكار العشوائية، شغلتنا طويلاً، وما زالت تُنسَخُ نسخاً متكرراً، دون أن نلمس شيئاً من إيجابياتها، وصارت ملزمة لنا سياسياً وكأنها نصوص دينية لا تتغير بتغير الواقع المتجدد، الذي يحتاج إلى أفكار ورؤى جديدة باستمرار، حسب حاجة المجتمع في كل فترة تماشياً مع التطورات والأحداث التي يمرُّ بها هذا المجتمع.
في كل حركة سياسية محلية تظهر تيارات متعارضة أو متوافقة ضمن هيكلها الواحد، يتفقون ويختلفون فيما بينهم في المبادئ والأهداف، وهنا تخلق الاتهامات والخلافات والانشقاقات، وكل رأي واتجاه يحاول استقطاب الجماهير التي بالنتيجة ستكون حقول تجارب تتحمل المعاناة والمرارة من الفشل الذي يحدثُ غالباً بسبب تخبط القيادات في أهوائها الفردية، وتخبط أفكارهم دون التركيز على إيجاد الطريق الصحيح لمسار هذه الحركة، وبعد ذلك نعود إلى دائرة الحجج والاتهامات، التي لم نستطع الخلاص منها منذ أيام كنّا صغاراً وحتى الآن، ونشعر بأننا نعيش دائماً في مرحلة الطفولة السياسية التجريبية لكلِّ الأحزاب والقيادات التي ما تزال ترضع في أفكارها مما يتوفر من التراث القومي التقليدي الذي يفتخر بحضارة غير مكتملة أصلاً وغير موجودة إلا في كتب التاريخ، ولم نتعلم منها إلا التعصب العرقي والتفاخر غير المجدي، أو من مخلفات الثورة الفرنسية التي كانت نموذجاً جدلياً للتغيير الثوري السياسي والاجتماعي، ولكن سياستنا لم تتعلم منها سوى الفوضى والديماغوجية السياسية، أو من جدليات الثورة الاشتراكية في روسيا، التي لم تستقر في أغلب مراحلها وبقيت وانتهت وهي في مرحلة التجربة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم نتعلم منها سوى الشمولية، أو من تراث الفكر الديني المتزمت الذي لا يؤمن بالتطور ولا بحركة الزمن، ولم نتعلم منه سوى التكفير وإلغاء الآخر، ولم تجد هذه السياسات حتى الآن فكراً يناسب التغيير الحقيقي والثورة الحقيقية، لترضع منه في طفولتها المزمنة، هذه الرضاعة التي كان من المأمول منها أن تؤدي إلى تطور المجتمع بشكل حقيقي وإيجابي، وكم نحن ما زلنا بعيدين عن ذلك!
وتراكمت أخطاء هذه السياسات، فقد كانت خطاباتها توهم جمهورها بكثير من الشعارات الوطنية والقومية والأهداف البراقة، ثمَّ سقطتْ في أول امتحان فعلي لها عندما حدثت الصراعات والمنازعات المحلية، فأخذت هذا الجمهور إلى الضياع وعدم الثقة بالسياسة التي اتجهت لاتجاه المصالح الشللية في المكاسب المادية والاقتصادية والتسلط الفردي، وقد ظهرت فيما داخل هذه السياسات اتجاهات وانقسامات مختلفة كل طرف منها يتهم الآخر بالميول اليمينية والرجعية، وصارت تتصارع فيما بينها حول مصالحها الفردية بحجة اختلاف توجهاتها الفكرية، وصار كلُّ اهتمام قياداتها اكتساب السيطرة بشتى الطرق على استحواذ السلطة والإدارة.
كان هناك من يعتقد أو يتوهم أنَّ التناقض الجوهري والأساسي بين اليمين واليسار والتقدمية والرجعية، كان بسبب اختلاف المفاهيم والأفكار في الفكر والفلسفة والاقتصاد، قبل اكتشاف أنَّ هذا التناقض كان شخصياً بين القيادات السياسية من جهة والأفكار المعارضة لها من جهة ثانية، لذلك استمر هذا الصراع في التصنيف زمناً طويلاً، ولم يفكر أحد بعدم ملاءمة هذا التصنيف للتعامل مع ظروف وقضايا واتجاهات سياسية جديدة اهتم بها اليمين كما اليسار، مثل قضايا البيئة وحقوق الإنسان والاقتصاد والتعليم والقضاء وما إلى ذلك من القضايا التي يهتم بها الجميع.
وبقي الصراع مستمراً حول مفاهيم اليمين واليسار والرجعية والتقدمية، حتى انتهى فعلياً بانهيار النظام الاشتراكي، واستحواذ ما يسمى بالقطب العالمي الواحد، وحل محله الصراع الفكري بين التطرف الديني من جهة، والفكر العلماني الحر من جهة أخرى.