تنفيعة
بعد أن أراح الوالد ساعديه، السالمة والمعطوبة، من أكياس الخضرة، التي اعتاد حملها يومياً، كلما عاد من وظيفته بدمشق، وغسل يديه من غبار الطريق، وإصلاح من يستحيل إصلاحهم، من التجار والاقتصاديين والساسة والمثقفين، تفرَّغ لأصغر أبنائه وأذكاهم، الذي هنأه بالسلامة، ثم سأله:
حبّذا يا والدي لو تتفضل، فتفهّمني وتفسر لي معاني بعض المصطلحات والفروق الدقيقة فيما بينها، مما التبس عليَّ فهمه، من المحاضرة التي استمعتها مساء اليوم، في صالة مركزنا الثقافي. وحبّذا أيضاً، أقول حبّذا، ولا أقول: شرط أن.
(أوضح الابن لوالده، مركّزاً على (حبّذا) التي يفضل والده استخدامها، بعيداً عن (شرط أن) التي لا يطيق حضورها، لا أصالة ولا إنابة. ثم استأنف مستطرداً):
وحبّذا أن لا تكون إجابتك، مثل إجابة صاحبك (أبي تمام) عندما سأله أحدهم: لماذا لا تقول ما يُفْهَم؟
فأجابه: ولماذا لا تفهمون ما يقال؟
***
على ما في رأس الوالد من هموم مجتمعة ومتشابكة، ومشاكل مترادفة ومنشقّة، فقد قدّر لخِلْفَتِه، ذهابه إلى المركز، وتوخّيه الإفادة مما يستمعه، وقرر أن يجيبه عن سؤاله. غير أن الأب أراد قبل ذلك، استفسار نجله الفهلوي، سبب عدم توجهه بالسؤال، للمحاضر نفسه. فكان تعليل الابن، أنه قد سأله، لكن الإجابة لم تكن مقنعة. ولمّا كان يبدو على المحاضر كثرة (الآدمية) وقلة الثقافة، فلم يرد إحراجه.
ثم سكت الابن قليلاً، قبل أن يلاحظ:
على ما يبدو (الأستاذ)، محسوب علينا محاضراً، ومبعوث يحاضر فينا (تنفيعة).
وهنا، رغب الوالد في اختبار ذكاء ابنه، فسأله:
إذا كانت تنفيعة أستاذ واحد، كأخينا بالله الذي خصّونا به اليوم، تضرّ بالثقافة والتثقيف، وما يبنى عليهما وينتج عنهما، على مستوى البلد، ذلك (المبلغ المرقوم). فلمَ برأيك يقبل رئيس المركز عندنا، استضافة تنفيعات كهذه؟
فأجاب الولد من فوره:
وإذا كان رئيس مركزنا، موجود في مكانه أصلاً تنفيعة، فمن أين له عندئذ، أن يميّز بين المثقف والمدّعي؟
وإن ميّز فمن أين له، أن يرفض أو يعترض حتى، على استضافة زيد أو عمرو من الناس؟!
***
وراح الوالد، على خلفية تحصيله المدرسي المتواضع، وثقافته الأدبية الغنيّة، يفنّد لابنه ما استطاع، من الفروق الغامضة، أو الملتبسة، بين كلمة وكلمة، بين مصطلح ومصطلح، مما جاء في سياق المحاضرة. القيّمة والمتعوب عليها، حسب تقديره، إلا أن ثقافة كاتبها، كانت على ما يظهر، أعلى وأوسع من ثقافة المُحاضِر الذي تفضل بقراءتها.
مما جاء على لسان الأب:
القناعة يا بني، لا تعني الاستكانة للواقع، على ما فيه من عشوائية وظلم وجهل وتعسّف. ولا هي استسلام تديّني/إيمانيّ، لكل ما هو مفروض، كما أنها لا تعني، الرضا على كل مكروه، والتسليم بكل حكم، وعدم تحريك أي ساكن، مثلما يطيب لبعض الأفراد أو التنظيمات أو السلطات – حسب مصلحتها – أن تفسّر. وإنما هي، كل ما يمكن أن يقبله العقل، ويستسيغه الفهم ويبرره المنطق، بعيداً عن الخزعبلات والهرطقات واللامعقول.
في حين أن القناع، هو كل ما يخفي الحقيقة بشكل أو بآخر، وبكثير أو بقليل. ومن المستهجن – وربما من المفيد أحياناً – أن يكون لكل شخص، وإن بنسبٍ مختلفة، قناعه الخاص، الذي يتمظهر به أمام الغير، وخاص الخاص، الذي يتجلى به أمام نفسه! والأمثلة على القناع والقناعة كثيرة ومعروفة.
التغيير: هو أن تبدل بالشيء غيره، قد يكون ذلك الشيء اسماً، قد يكون شكلاً.. معنىً.. مادةً.. مؤسسة.. تنظيماً.. نظاماً.. أو نهجاً.
ومن أسفٍ، أنّه، لمصلحة ولهدف، أو لسواهما، يجري التبديل في أوقات كثيرة، إلى الأسوأ. وحين يكون التغيير إلى الأفضل يا لبن أبيك، عندئذ يصبح تطويراً. هذا بشكل عام وباختصار وبتبسيط، هو الفرق بين التغيير والتطوير، ولن تعدم أمثلة.
الجهل: وكل ما ذكر الجهل، استدعى لديّ البرد، الذي يصفونه بأنه (سبب كل علّة). ولعل الجهل أسوأ وألعن وأشرّ من البرد. لأن المرء، بإمكانه اتقاء البرد ومعالجة عواقبه، إن كان عالماً، لكن..
أما التجهيل، والعياذ بالله (يتابع الوالد الإجابة عن أسئلة ابنه): لاسيما إذا كان سياسة متبعة دولياً أو محلياً. فهو ليس أبا الجهل ومحرضه وناشره فقط. بل هو أحد أكبر السرطانات التي تفتك بالعقل والجسد، البشريّيْن. وإذا ما انتشرت واستشرت، في مكان ما، فلن تُبقي ولن تذر.
وما المذابح التي ترتكب بحق سورية والسوريين، وغيرها وغيرهم من الدول والشعوب، في أربع جهات الأرض، سوى النتيجة الجهنمية، لكن، الطبيعية.. والابن الشيطاني، لكن، الشرعي.. والثمرة الزقّومية، لكن، المثلى.. لسياسة التجهيل الإرهابي المسلح، الذي تمارسه قوى الظلم والظلامية في العالم!