المدخل الاقتصادي الاجتماعي

تعد الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية للنهج الاقتصادي الذي فُرض بطريقة الصدمة المفاجئة بعيداً عن الإحاطة بالنتائج وعلاجها، وبعيداً عن خصوصية سورية والبنى المؤلفة للمجتمع عبر تراكمات تاريخية وجذور عميقة، فكان من نتائج هذه السياسات التهيئة البنيوية لصراع بدأ بشكل مطالبي أقرب إلى الصراع الطبقي، لينحرف وليصبح صراعاً يأخذ الشكل اللاوطني من ناحيات إثنية وقبلية جاهلية بعيدة عن تكوين الدول الحديثة. هذا التخبط أدى إلى تحول بلادنا حلبة صراع عمودي بدلاً من أن يكون أفقياً، فكذلك كان هناك ضحايا للطبقة الغنية التي تعمل بالتجارة والصناعة وتبوأت مناصب وتحملت مسؤوليات وأصبحت عبر الزمن شخصيات مؤثرة عضوية ببلدنا. وهذا الشكل الجديد للصراع سهّل سورية لتصبح مجرى لفيضانات من الدماء والدمار هي الأكثر طوفاناً عبر عقود أو قرون، وحتى بفترات الاستعمار الخارجي لم يحصل هذا القتل وهذا الدمار، وتصبح المطالب الأولية في سلة النسيان لأن الانعكاسات المدمرة للصراع الأفقي وصلت إلى مرحلة أن البعض أصبح يترحم على الماضي ما قبل الصراع مهما كانت مؤشراته. وأكيد كان هدف البعض توصيل الناس إلى هذا لينسى الناس أسّ الفساد وما قاموا به من إقصاء وتهجير للكفاءات وسرقة ونهب واحتكار على حساب روح البلد وجسده،  كل ذلك بما يتماشى مع ما خطط منذ عقود لهذا البلد ولعمق وتاريخية المواطن فيه فطالما وقف حاجزاً وسداً منيعاً أمام المشاريع الإمبريالية والاستعمارية والتقسيمية، ولنا رموز كثيرة في الوقوف ببطولة ووطنية وقومية رحمهم الله من المجاهدين والأبطال كالقسام ويوسف العظمة وجول جمال والشيخ صالح العلي وحسن الخراط وإبراهيم هنانو والقاوقجي وسلطان باشا الأطرش، وما تلاه من تطور متجذر للفكر القومي الإنساني عابر الحدود السورية، الذي بات يشكل خطراً فكرياً على الغرب ومشاريعه التدميرية التي تلاقت مع بعض الأفكار والإيديولوجيات البراغماتية الطامحة للسلطة ولو على حساب الدماء.

  السياسات الخاطئة المبرمجة فتحت المنافذ والأبواب لتسلل الأفكار والأدوات القاتلة لسورية ولشعبها المحب المعطاء، وكانت لهذه السياسات المفروضة رغماً عن المعارضة المؤسساتية والشعبية القوية نتائج تشويهية بنيوية خطيرة، من فقر وبطالة وانشقاق مجتمعي وهجرة داخلية وعدم استقرار وانحلال أخلاقي أصبح قشاً بحاجة إلى عود ثقاب ليشتعل ويأكل الأخضر واليابس.فأسلوب الصدمة الذي اتبع لقتل سيطرة الدولة عبر مؤسساتها، ولتكون السيطرة لفئة اجتماعية قليلة تكاد تحصى على أصابع اليد، ورساميل سوداء لها خيوط مع قوى ومشاريع. وكان هدف القوى الخارجية سيطرة هذه الشخصيات على مفاتيح الاقتصاد والسياسة في أغلب البلدان، لتستمر مصالحهم القائمة على سلب الثروات ونهبها ولتظل هذه البلدان نبعاً للمواد الأولية وسوقاً لتصريف منتجاتهم، وبضمنها الأسلحة، وبالتالي فإن إضعاف بلدان المنطقة وتدميرها لم يكن فجائياً أو نتيجة غير متوقعة، وإنما هو أمر مخطط له، كثيراً ما صرحت به شخصيات أمريكية أو تابعة لها، والفوضى المدمرة تخدم كل هذه القوى بعد الوصول إلى سوية تنموية كبيرة في مجال البنى التحتية وبكل نشاطات الحياة، لتتفوق على أغلب الدول من حيث المشافي والجامعات والمدارس والكهرباء والصرف الصحي والفنادق والطرقات وكل نواحي الحياة، وإن كان هناك إهمال للثروة البشرية، وبالتالي يجب أن تعاد الدورة الاقتصادية بالتدمير ليحافظ أس الفساد على مكانتهم ولتزداد ثرواتهم، فكان أهم دواء لشكواهم ما جلبته لنا الحكومات السابقة من سياسات شخصية ولم تكن ولن تكون ليبرالية، كما حاول البعض تسميتها، فالليبرالية تعني الحرية والمنافسة ولا تعني الاحتكار والإقصاء والتفرد بالقرارات، والليبرالية التي تطبقها الدول الغربية بسياستها الخارجية أبعد ما تكون عن تطبيقها في بلدانهم التي تطبق فيها العدالة الاجتماعية بأقصى حدودها عبر سياسات تدخلية وأغلبها من الفكر الاشتراكي… هذه السياسات الشخصية – المترافقة بتضليل رقمي مخيف لتمريرها، وبالتغاضي عن كل قوى الرفض – الهدف منها القضاء على القطاع العام والمحافظة على الفساد بكل أشكاله وتعميمه على المجتمع السوري بحيث لا يهرب أي قطاع أو مؤسسة أو شخص منه وبكل أشكاله (المالي والمادي والروحي والأخلاقي والقيمي والوجودي..) والتركيز على إفساد التعليم والقضاء والمؤسسات الدينية ليصبح الفساد منظومة متكاملة صعبة الحل والعلاج، واستكمال سياسة الإفساد، ومحاولة خلق طبقة اجتماعية كاملة تتبنى المشروع وتستمر به بعد أن تشعل النار، وهو ما كانت المؤسسات عدوة لهم، لأنها تقوض قرارهم، الأحزاب القومية والاشتراكية عدوة لهم لأنهم طبقيون ولهم مشروعهم، وبالتالي سحب يد الدولة من التدخل بتحرير التجارة وتشجيع الاستهلاك الغرائزي، وتشجيع الانحرافات والانحلالات الأخلاقية واتباع سياسة تعيينات تعتمد على الولاء الشخصي والولاء لبرنامجهم التدميري لقتل المجتمع، إنه الدعم الذي ترافق بتجييش إعلامي كبير لما تخسره الدولة ولما يأتي من فوائد إن خفّف، ولما ستكون عليه الآليات الجديدة لعدالة توزيعه، والهم هو خلخلة المجتمع من جهة وزيادة اغتناء بعض الأشخاص عبر الاستيراد لهذه المواد بأسعار خيالية، ولو أدى ذلك لتعاظم الفقر والفقراء وزيادة البطالة وضرب الصناعة الوطنية والحرف التراثية وكان ما كان.. ووصلت الشخصيات المعهودة بتنفيذ هذه البرامج إلى مبتغاها المضعف للمجتمع المشرذم له المفتت والقاتل للجسد، بانعكاسات قاسية لسياساتهم التي يعرفون نتائجها مسبقاً وما زالوا يفرضونها وبشكل أقسى، ويحاربون من داخل الحدود وخارجها لاستمرارها بما يحافظ على أموالهم وقوتهم ووجودهم.  للأسف خلال مراحل الصراع لم تتغير هذه السياسات وإنما استمرت بشكل أكبر وأكثر إيلاماً وبالأسلوب نفسه، لتمرير المغطس بالدماء والدمار وبعقول غائبة أو مخدرة من هول ما نراه، وليس غريباً أن تستمر مادام أعضاء الفريق الاقتصادي الذي صرح علانية ببرنامجه يتبوؤن مراكز ومواقع ويستمرون بما بنيت عليه بعيداً عن أي شعور اتجاه ما ينجم عنه من معاناة للوطن وللبشر، ومن عرقلته العودة القوية لسوريتنا، بما يكافئ الدماء والشعب الذي صبر صبراً لم ولن يصبره أي شعب آخر. هؤلاء بسلوكهم يوحون أن البرنامج الاقتصادي الذي يسيرون به هو أس الصراع، وأن أي حسم ضدهم يعني استمرار البلاء ولكن الواقع المحلي والإقليمي أثبت أن هؤلاء مجرد أصوات انتهازية صوتية لا تقوى على الوقوف بوجه الطوفانات البشرية الصادقة الناطقة، وأنه حتى مؤدلجوهم من صهاينة وغرب لا إنساني يبدل جلده أمام الواقع الذي لم يتوقعوه، وما حصل بغزة خير مثال…كل ذلك يجعلنا نصل إلى نتيجة أن الباب الاقتصادي كان صلب الولوج لبلدنا، وأن انعكاساته قد مرضت الجسد وخففت مقاومته، وأن هذا الباب وتسكيره بالشكل الذي يجعلنا لا نفتحه إلا مثلما نريد وفي الوقت الذي نختاره هو مفتاح الحل والعودة القوية، وكل من يحيد ما طبق من سياسات عما حصل ويحصل هدفه التضليل، مثلما كان يضلل بالأرقام، وأكيد لا يمكن تجاهل التفريغ المنظم للنواحي الأخرى الثقافية والرياضية والسياسية والمؤسساتية عبر السير بأهواء شخصانية لا تبتعد عن الغاية المتمثلة بفرض النهج الاقتصادي الشخصاني..

العدد 1140 - 22/01/2025