إلى بعض وزراء حكومة تسيير الأعمال: وصلت رسالتكم!
تستمر تداعيات الإجراءات الحكومية الأخيرة، التي قضت على ما تبقى من آمال لدى الضعفاء اقتصادياً، وشتّت كل الجهود التي حاولت تحسين الواقع المعيشي الصعب. ومن التسريبات المهمة التي حصلت (النور) عليها، أن مجلس الوزراء في حكومة تسيير الأعمال، عند مناقشته قرار زيادة أسعار الخبز، تعالت فيه بعض الأصوات المنفصلة عن واقعها، مطالبة برفع سعر الخبز إلى حدود التكلفة، أي نحو 130 ليرة للكيلو. وهناك مجموعة أخرى من الوزراء لم تجد حرجاً في رفع سعر هذه المادة، بل كانت تمثل اتجاهاً ليبرالياً يقضي بزيادة سعر المادة، دون النظر إلى العواقب السلبية، والتداعيات الخطيرة المترتبة على ذلك. وثمة أصوات في المجلس، وهي قليلة على أية حال، استطاعت أن تخفف من وطأة تلك الاتجاهات، وتضع ما يمنع من تمددها واستطالاتها، وتخفف من جنوحها الليبرالي، وابتعادها غير المحق عن الفئات الهشة والضعيفة اقتصادياً.
والحقيقة التي تتجاهلها معظم القوى المؤثرة في اتخاذ القرارات الحكومية حالياً، هي تغييب الجذر التاريخي لقضية الدعم، ومحاولتها اعتبار الدعم على أنه جزء من عمل حكومي صرف، بينما هو في الواقع يتعلق بسياسات وطنية كلية، وموقف عام للقوى السياسية والنقابات، وانحياز واضح للاشتراكية التي كانت معتمدة في نهجنا الاقتصادي السابق، أو أنها تمثل ما تبقى من ذلك النهج الذي لم يطبق يوماً، سوى في هذه السياسات. وفي الوقت ذاته، فإن الموقف من الدعم، يندرج في صلب النهج الاقتصادي الجديد، ويمثل الاجتماعي في اقتصاد السوق، كما أنه يحمل في جوهره متطلبات التنمية المستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية التي نص عليها الدستور. هذه حقائق غابت مطلقاً عن بعض وزراء حكومة تسيير الأعمال، لم يتذكرها هؤلاء المفترض أنهم ملتزمون بتطبيق الدستور، ما يعكس إما مدى جهلهم بها، أو تجاهلهم لها، وفي كلا الحالتين ثمة مصيبة. ولابد من التذكير، أن السياسات الاقتصادية بنفحتها الاشتراكية السابقة، والاجتماعية الحالية، لم تأت عن عبث، أو أنها مجرد عبارات وضعت، لإضفاء مسحة رسولية على الاقتصاد المتوحش الذي نعيشه. هذه السياسات أتت بناء على نضال طويل، وتوافق وطني، كما أنها جاءت تعويضاً مباشراً عن التدني الهائل في الدخول، وفقاً لسياسة وضعه المرتبطة مباشرة بالدعم، وتعزيزاً لدور الدولة التدخلي في الحياة الاقتصادية.
المشكلة في الدعم لدى هذه الحكومة، هو تجاهل مضامينه، وأثره الايجابي على حيوات الناس، واعتباره قضية مالية، وتخوفها الواضح من الولوج إلى جوهره، للانتقال الى مرحلة ثانية يتم من خلالها إقرار المتابعة في هذا النهج، أو التراجع عنه. لايوجد دولة في العالم المتقدم، ذات الاقتصاد الليبرالي، بكل تصنيفاته ومراحل تطوره، لاتقدم لمواطنيها دعماً، بأشكال وصيغ مختلفة، وتستهدف بمظلتها الاجتماعية الفئات المعوزة. ومهما وجهنا أصابع الاتهام لهذه الدول التي تمثل أعتى الدول تطبيقاً لليبرالية الاقتصادية، وقلاعها الحصينة، فسنجد أن لديها دعماً تقدمه للفئات الهشة، لأن خطر الفقر هائل، والعوز عدو حقيقي لمعدلات النمو والتنمية، والتهميش والإقصاء يقضيان على أفضل الخطط التنموية. هذه قواعد ثابتة، حتى الأن على الأقل، في العمل الاقتصادي، وليست مجرد مواقف تتخذ. بمعنى أخر، لا نعرف تماماً، كيف تنحاز حكومتنا إلى المواطن، بعد مواقفها الاقتصادية الأخيرة؟ وماهو شكل هذا الانحياز؟ وهل تريد فعلاً ترك مهامها ووظائفها في المجالات التي على تماس مباشر مع حيوات الناس؟
وزراء حكومة تسيير الأعمال الذين لم يجدوا ما يمنع من رفع سعر الخبز إلى حدود التكلفة، كان حرياً بهم ألا يتجاهلوا أنهم يمثلون تيارات تعتمد على قاعدة شعبية واسعة، من فلاحين وعمال ومتوسطي الحال والضعفاء اقتصادياً، وأنهم مطالبون بتطبيق ما ورد في الدستور، لا أن يجنحوا نحو الضفة الأخرى. كما أن تحريك الأسعار بهذه الشاكلة، يتطلب الحديث عن التعويضات، وإيصالها إلى مستحقيها. فمظلة الدعم لم تأت لرفاه المواطن، بل لسد حاجاته الأساسية، ولتعديل موازين القوى التي عادة لاتميل لمصلحة الفئات الهشة.
أثار زيادة أسعار السلع المدعومة العديد من الأسئلة حول مستقبل اقتصادنا؟ وهويته؟ التي تحاول كل حكومة تحديدها بناء على معطيات تملكها ومواقف تريد اتخاذها. أما أن تعالج الحكومة النقص الحاد في الموارد بهذه الطريقة البسيطة، وغير الاقتصادية، والخالية من الشق الاجتماعي، فهذا يشبه القصاص، وما سلوكها لهذا الدرب غير الشعبي، سوى تعبير واضح عن موقف تريد إيصاله للناس، وفعلاً الرسالة وصلت. فالقضية ليست تحريكاً وزيادة لأسعار بعض المواد الأساسية، بل موقفاً واضحاً من الدعم، هذه هي قضيتنا، وتلك هي رسالتكم.