شيطنة الآخر والنهج الإقصائي جزء من العمل السياسي

 الجنس البشري.. ذلك الجنس المنقسم على ذاته والذي منذ تطور العقل البشري قليلاً بات أكثر ما يقتل الإنسان هو الإنسان، وأكثر مجال لإنفاق الوقت والجهد والمال في مجالات العلوم كافة هو مجال الصناعات والتكنولوجيا العسكرية، أي أن الإنسان هو أكثر كائن مُبدع في أساليب قتل أبناء جنسه نارياً وكيماوياً وفيروسياً وإشعاعياً. وحتى قبل تطور العلم كان الإنسان يستخدم ما سماه السحر الأسود ووسائل أخرى متصلة بالخيال والتصورات أكثر من الواقع في سبيل إيذاء الإنسان، بينما لا نجد ذئاباً تقتل أو تؤذي ذئاباً أخرى لأن فروة تلك الذئاب سوداء أو ملونة بألوان أخرى..

إن مسألة (أنا والآخر) و(نحن وهم) مسألة شائكة، وجميع أشكال التمايز بين الناس وحالات التفضيل اللاموضوعية المرتبطة بالتاريخ أو بلون البشرة هي مسائل مؤسفة لم يتم تجاوزها. فالنازية والصهيونية وما تنشره معظم الأحزاب العربية الكبرى من حالات شوفينية إلى يومنا هذا، ونهوض أسماء ورموز دينية وطائفية من التاريخ برعاية أنظمة عربية، دليل على تخلّف تلك الأنظمة وأنها جزء من الحراك الرجعي، وامتلاكها لعقليات في التعاطي مع شعوبها تُشبه عقليات المستعمر زمن الاستعمار.

ومن الجدير بالمواطن العربي السكوت عن إبداع أجداده وأمجادهم خجلاً من واقعهِ المخزي، فالعقل السليم يستدعي المقاربة والمقارنة بين الحالين المتباينين للأمة العربية. ومن الواضح أن حالات الإعلاء الوهمي للذات والتشظي في المجتمعات العربية تتنامى، ذلك أن الأوطان المبنية على تصورات وشعارات، لا على تطبيقات لمفاهيم الدولة الحديثة التي تُشكّل المواطنة والعدالة الاجتماعية جانباً أساسياً فيها، هي أوطان هشّة سيؤدي تراكم المسافة فيها بين النص الدستوري والقانوني والتطبيق على أرض الواقع بشكل طبيعي إلى انهيارها وتفتتها. وإن الأنظمة الاستبدادية ترعى حالات من الاضطراب والخلل في الوعي الجمعي، وهي على استعداد لخلط الأوراق التي تتعلق بالهوية الحضارية أو أي مناحٍ اجتماعية أخرى لخدمة بقائها واستمرارها، فالنازية على سبيل المثال أدخلت الشعب فيما يشبه الذُّهان الجمعي، والمصائب الكبرى هي حين تتحرك شعوب نحو عدوان ما، كقطعان الماشية، دون حسابات عميقة، لأن قادتها صوروا لها أنها مستهدفة في حرب إبادة أو زرعوا فيها نرجسية جمعية، فبات المواطن يقبل أن تقصف دولتُه وتقتل مئات الأبرياء من رعايا دولة أخرى، لأن مواطناً من دولته أو بعض مواطني دولته تعرضوا لعدوان من قبل أولئك الأجانب، كما حدث في حرب الولايات المتحدة على أفغانستان بعد اعتداء 11 أيلول، أو في قصف هيروشيما وناجازاكي.

يقول نلسون مانديلا: (لا يوجد إنسان وُلِدَ يكره إنساناً آخر بسبب لون بشرته أو أصلهِ أو دينهِ. الناس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية، إذاً بإمكاننا تعليمهم الحُب، خاصة أن الحُب أقرب إلى قلب الإنسان من الكراهية).

انطلاقاً من هذه المقولة الخالدة، إذا بحثنا عن أولئك الذين يشيطنون الآخر، نجد أن القيادات السياسية والعسكرية في إنكلترا شيطنت الفرنسيين في فترات الحروب بين فرنسا وإنكلترا، ونرى أن القيادات وصفت الفرنسيين بأوصاف مُحببة وجميلة تنمّ عن كونهم شعباً حضارياً حين بات خطر الماكينة العسكرية الألمانية مُحدقاً بإنكلترا وفرنسا، وكذلك الأمر بالنسبة للشعب الألماني الذي اضطهد فئات عدة من الناس من بينهم اليهود، ثم عاد اليوم ليتراجع عن هذا الموقف ويدينه بعد زوال آفة النازية التي أصابت الوعي الجمعي الألماني بالضلالات.

وعلينا اليوم كعرب أن نكون الأكثر حذراً من هذه المسألة، خاصة أن لدينا تاريخاً يغص بالاستعلاء والمفخرة ابتداءً من موروثنا من الشعر والآداب والحكايا، وصولاً إلى خطب الطغاة الرنانة التي تزرع لدى معظم الشعوب العربية فكرة أنها شعب الله المختار دون أن تقولها صراحة.. فالفساد وانعدام العدالة الاجتماعية يحرم الناس من المجد والازدهار الحضاري ومنافسة الدول المتقدمة في الواقع، ويجري التعويض عن ذلك بالإكثار من الشعارات والمبالغة في وصف كل شيء تنجزه الدولة أو المملكة.

العدد 1140 - 22/01/2025