أول اعتراف حكومي بالتقصير خمسة أسباب لتدني مستوى الخدمات لم تقترب الحكومة منها
بدا واضحاً، براعة الحكومة في تبرير تقصير عدد من مسؤوليها، ودغدغة مشاعر مواطنيها، وإرضاء بعض مطالبهم اللامتناهية. فاعترافها بتدني مستوى الخدمات، خلال الفترة الماضية، جاء، للوهلة الأولى، برداً وسلاماً على المواطنين، وتعبيراً صادقاً على غير العادة عن الواقع، يخالف حالات الإنكار الاعتيادية، لمثل هذا التقصير. لكنه أتى ناقصاً أيضاً، وضعيفاً لجهة الأسباب التي وضعتها الحكومة، ومثيراً لكثير من الأسئلة والشجون، لجهة دور الحكومة في هذا المجال، ومدى جديتها في معالجة هذا الواقع المرير، وقدرتها على رفع مستوى الخدمات؟
يُسجّل للحكومة الحالية، أول اعترافاتها بالتقصير، في أدائها لعملها، ويسجل لها جرأتها العلنية، وتظهيرها لما يشبه النقد الذاتي من داخل غرفها المغلقة، إلى العلن، وفي هذا رسالة واضحة، وصلت مضامينها إلى الناس، ودخلت إلى قلوبهم قبل عقولهم، لفرحة نفتقدها عادة نتيجة عدم إقرار المسؤولين بأخطائهم حيناً، وبتقصيرهم معظم الأحايين. إلا أن الواقع غير السار، والهبوط الهائل لمؤشر الخدمات، والعجز الكبير عن تلبية الاحتياجات، دفع الحكومة إلى قطع نصف الطريق على الناس، والذهاب بعيداً بإقرار التقصير، وهذا من شيم الحكومات التي تعتمد الشفافية في عملها، والمكاشفة مع مواطنيها، وربما الحوكمة في تقييم أدائها. وفعلاً يمكن القول إن الحكومة لديها نصف مملوء من الكأس، تركته على غير عادتها، ونظرت إلى النصف الفارغ، الذي عادة ما يكون محط أنظار الأخرين، في إشارة إلى تقصير ما، أو خلل معين. وسبقت الحكومة بفعلتها تلك، كل الراغبين في نقد أدائها، متجاوزة عقدة الإنجاز التي تحاول التغني بها، والتهليل لها، والتركيز عليها، ولم تترك لمنتقديها شيئاً، يستندون إليه في تعزيز موقفهم السلبي الدائم منها. هذه الحصيلة الأولية مبشِّرة، وتعطي انطباعات إيجابية، وتخلق نوعاً من الارتياح المؤقت، والفرح المقنن. فنقد الحكومة لنفسها لم يعالج الأسباب الحقيقية لتدني مستوى الخدمات، لأنه يشترط تساؤلاً مريراً عن وجود الخدمات أصلاً؟ كما أن جملة الأسباب الي قدمتها الحكومة لهذا التقصير، غير مقنعة، فهناك ما هو أعمق، وجوهري، تقصدت الحكومة تجاهله، ويتعلق بتحديد مباشر لقطاعات الخدمات المقصودة التي تدنى مستواها، وتحديد المسؤولين المباشرين عن هذا الإهمال أو التقصير، وما السبل التي ستتبعها لمعالجة هذا الوضع؟ والخطط الزمنية التي تطمئن الناس بأنه خلال فترة محددة سيكون وضع هذه الخدمات تحسن؟
يتمثل تدني مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين، بخمسة أسباب هي على التوالي: الترهل الإداري العارم في المؤسسات أولاً، شعور بالعجز يعصف بأداء عدد من المسؤولين ثانياً، غياب واضح للرقابة بكل أشكالها ومستوياتها ثالثاً، عدم سماع صوت المواطن رغم أنه بوصلة العمل، رابعاً، الفساد خامساً، هو العدو الأخطر الذي نهش اقتصادنا، وتغلغل فيه كسرطان، قضى على المقدرات، وعطل محاولات التغيير الممكنة. ومن أمثلة ذلك، بقاء الناس بلا مازوت للتدفئة، وبلا غاز منزلي. هذه الأسباب لم تعالجها الحكومة، بل رمت الكرة إلى شمّاعة الأزمة، والحصار الجائر، وهذه حقيقة لا نختلف عليها، لكنها الحقيقة المبتورة، والمنتقصة، في آن، التي لم تعد تقنعنا عقب 44 شهراً متتالية من الصراع الدامي في سورية. حتماً، إن المطلوب من الحكومة ومسؤوليها، خلال فترة الأزمة، يفوق بأضعاف المطلوب منها في الحالات الطبيعية، وتاريخ الأزمات يكشف رجالات الدولة وقدراتهم وإمكاناتهم، ويعري المتسلقين، والوصوليين، والشعاراتيين، كما أنه يضع معياراً لأولئك القادرين على العمل، والأخرين الذين لايجيدون سوى الاختباء، لكي لا نقول دفن الرأس في الرمل. العاصفة التي تعرضت لها سورية في شقها الاقتصادي، لم تفكك قوى الفساد، ولم تفصل الجانب السياسي عن المهارات والإمكانات وقدرات الكوادر أثناء التعيينات، فظلت المناصب العليا في دوامة الاحتكار والتقييم غير العقلاني، وبالتأكيد يمكن القياس بالمسطرة ذاتها على الإدارات الأساسية والوسطى. هذا نهج ثبت فشله ونحن مازلنا مستمرون فيه، ونرسم طريقنا الاقتصادي من خلاله، بل ونؤمن، لسذاجة بعضنا، بوجود مُخّلص، ومنقذ لاقتصادنا! هذا الواقع من الطبيعي أن يؤدي إلى غياب الخدمات، وليس تدني مستواها كما تزعم الحكومة. ويسهم في تعميق الفجوة بين المواطن والمسؤول. وبقدر ما كانت الحكومة محقة في توصيف الواقع، كانت بعيدة كل البعد عن وضع أسباب هذا التردي المرفوض وغير المقبول، في سياقها الصحيح. فالمواطن يريد من حكومته أن تقدم له، لا أن تكتفي بالأخذ منه، أن تصارحه لا أن توارب في المكاشفة، أن تعترف بتقصيرها لا أن تسرد المبررات لذلك. فمستوى الخدمات متدنٍّ جداً، منذ سنوات، وتقرير التنافسية الوطني الأول، الصادر قبل الأزمة يدلل على ذلك، لكن هذا المستوى انحدر إلى القاع، ولا الحكومة تستطيع أن تتجاهله، فأتى اعترافها به، بمثابة تكفير عن ذنب.