من أرشيف فضائح الرأسمالية الاحتكارية… «أنرون» الكذبة الكبرى
(عندما كنت أشاهد بعض الأسهم المالية وهي تهوي في الأشهر الأخيرة كنت أتخيل أنني أسمع صوتاً يرن في رأسي، ويشبه إلى حد كبير صوت واحد من هؤلاء المشرفين على موائد القمار في (لاس فيغاس)، الذي يقول للمقامرين ببرود، وهو يكنس بيديه الأقراص المعدنية الصغيرة العائدة لهم من على الطاولة، بعد أن خسروا :نشكركم على اللعب أيها السيدات والسادة). (1)
وقف (سكيلينغ) المدير التنفيذي لشركة (أنرون) عملاق الطاقة الأمريكية وراء ميكروفونات الصحافة، ضاحكاً..وممازحاً حشد الصحفيين قبيل بداية القرن الجديد: أين الغرابة في ذلك..فشركتنا أمريكية خالصة، وتصنع المعجزات. سكيلينغ يلمح هنا إلى ارتفاع أسهم الشركة خلال عامين بنسبة قاربت 200%.
كل شيء بدا مثالياً للشركة التي توزع الطاقة الكهربائية إلى الولايات الأمريكية، إنها المدللة في (وول ستريت) ويتسابق المحللون على امتداح الدور الذي لعبته إدارتها المتفانية بهدف إيصالها إلى سدة النجاح والتألق، وإبرازه، لكن تساؤلاً طرحته إحدى صحفيات مجلة (فورتشن) على المدير التنفيذي حول مراعاة الشركة للأصول المحاسبية، ورده على هذا التساؤل باستخفاف وكلمات نابية، فتح المجال أمام محللين مستقلين للإمعان في دراسة الوثائق المالية للشركة، إضافة إلى شكوك بعض العاملين فيها حول صفقات الدمج التي يقوم بها المدير المالي للشركة (اندي فاستو) ودفعتهم إلى بث شكوكهم إلى المدير التنفيذي الذي أكد ثقته بمديره المالي، وقابل هذه الشكوك باستخفاف مريب.
تقول (شارون واتكينز) المحاسبة المالية في الشركة: كنت أتابع قوائم الموجودات، ووجدت فروقاً واضحة في تلك القوائم، وسألت نفسي، كيف وافقت شركة (آرثر أندرسون) أكبر شركات المحاسبة والتدقيق المالي في أمريكا على تلك القوائم، وهي التي تتقاضى مليون دولار أسبوعياً لقاء تدقيق بيانات الشركة ؟
ويقول أحد محللي الشركة الماليين: قبل أسابيع من تقديم البيان المالي للشركة وجدت فجوة هائلة بين الأرقام الحالية، وما يجب أن تكون عليه، لكن الأرقام تتطابق فجأة قبل أيام من تقديم البيان.! إلاّ أن أزمات الطاقة الكهربائية التي تعرضت لها ولاية كاليفورنيا في عامي 2000و 2001 كشفت كثيراً من الممارسات (الابتزازية) التي مارستها انرون لصالح تجار الطاقة التابعين لها، فقد كُشفت للعلن بعض الاتصالات الهاتفية التي تؤكد مطالبات هؤلاء التجار للشركة كي تقطع الطاقة عن الولاية بهدف زيادة الطلب على الطاقة المخزنة لديهم، وموافقة الشركة دون تردد على هذه المطالبات، وتكررت هذه المطالبات، بل وصل الأمر إلى افتعال الحرائق في أبراج إمداد الطاقة الواردة من أنرون كي يستفيد هؤلاء التجار.! وحين وصلت خسائر الولاية إلى نحو 30 مليار دولار، طالب حاكم كاليفورنيا بتدخل الرئيس بوش، ونائبه تشيني- الذي شغل منصباً قيادياً في الشركة، وكان صديقاً حميماً لمديرها الجديد (كين لاي)- كان يأتيه الرد: نحن لا نتدخل إنها مشكلة كاليفورنيا.!
استقال سكيلينغ في آب 2001 وقام بعد ذلك ببيع أسهمه في الشركة قبل أن تغرق، وحل في منصبه كين لاي الذي طمأن العاملين في الشركة على مستقبلها، وعلى أموال العاملين الذين استثمروها في أسهم الشركة، وكذلك أموال صندوق التقاعد العائد لهم، ولكن على بعد أمتار قليلة فقط، كانت شركة آرثر أندرسون التي تولت تدقيق حسابات انرون تتلف كل الوثائق المتعلقة بها!
بعد أربعة أشهر من استقالة سكيلينغ أشهرت الشركة إفلاسها، وكشف تواطؤ بعض كبار المصارف مع (أنرون) مثل سيتي بانك، ومورغان، وميريل لينش. فقد 20 ألف موظف عملهم، إضافة إلى موظفي شركة أندرسون البالغ عددهم 30 ألفاً، وخسر موظفو أنرون نحو مليار دولار، أما صندوق تقاعدهم فقد بلغت خسائره 3 مليارات دولار، وأدين في المحكمة مديرو الشركة.
لكن شيئاً لم يتغير، واستمرت إدارة بوش بتشجيع الشركات والمصارف على تضخيم أصولها دون رقابة، بل أزالت القيود الضابطة لتوازن أسعار الفائدة مع وضع الاقتصاد الكلي، وهمّشت الاقتصاد الحقيقي لصالح تنامي الرساميل الريعية التي راحت ملياراتها تصنع الفقاعات واحدة إثر أخرى، وصولاً إلى الانهيار الكبير في 15 أيلول 2008. لقد تناست الإدارة الأمريكية وظيفة الحكومة المتمثلة بحراسة الخط الدقيق الفاصل بين الحد الضروري من المخاطرة الذي يقود الاقتصاد الخلاق، والمقامرة المجنونة بمدخرات الناس بطرائق تعرض الجميع للخطر.
يتساءل الاقتصاديون في أنحاء العالم:كيف يمكننا تفسير تدخل الإدارة الأمريكية مرة بفتح خزائنها لنجدة المؤسسات المالية الكبرى، وأخرى ببرمجة خططٍ إنقاذية لتعويم الاقتصاد، سوى أنها في فترةٍ ما، ولأسبابٍ غير معلنة، تخلّت عن مهمتها الأساسية في حماية اقتصادها، تاركةً المصارف الاستثمارية وأسواق المال تتوسع في ديونها، وترتهن لجنون المضاربات، بدلاً من سعيها إلى تنظيم الأسواق وضبط المؤسسات المصرفية والاستثمارية الكبرى.؟ (2)
تحدثوا في أمريكا بعد حقن المليارات في المصارف التي كانت سبباً رئيسياً في الأزمة، عن تجاوز الإعصار، وبدء مرحلة الانتعاش، ويشاركهم هذا التفاؤل بعض المؤسسات والمنظمات الدولية، فهل سنبدو متشائمين إذا تساءلنا: من أين يأتي الانتعاش إذا كان إجمالي خسائر الأزمة تجاوزت 54 تريليون دولار؟! وإذا كان الاقتصاد الأمريكي (أُضعف بشدة نتيجة للجشع وعدم المسؤولية)
هذه الكلمات التي ساقها أوباما في خطاب القسم، تدلل على حجم الكارثة التي عصفت بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أمريكا (اقتصادنا أضعف بشدة، نتيجة للجشع وعدم المسوؤلية من جانب البعض، منازل فقدت، وظائف انتهت، أعمال تهاوت، نظام الرعاية الصحية لدينا مكلف جداً، مدارسنا أيضا فشلت، وشعور بالخوف أن تدهور أميركا أمر لا مناص منه، وأن على الجيل القادم أن يخفض من سقف تطلعاته).
أما ما فعله أوباما للاقتصاد الأمريكي والعالمي بعد هذا التقييم. فمكانه في مقالة قادمة…
1 – توماس فريدمان راجع سي إن إن 6 /12/ 2008
2 – راجع سي إن إن بتاريخ 12/11/ 2008