«الديلمي»… شعرية التوازن بين «القومي» و«الديني»

يُعد أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي (ت 428ه-  1037م)، واحداً من أبرز الشخصيات الإشكالية في الإرث العربي الإسلامي الإنساني، فالقرن الهجري الرابع – عربياً – كالقرن الميلادي السابع عشر – أوربياً – قرن فارق تاريخياً، ففيه استوى لمجتمعات دولة الخلافة (المنهج الأممي) في الثقافة والطبيعيات والاقتصاد والتفلسف. فالكندي أبو يوسف يعقوب (796 – 873م) وضع المنهج التجريبي أساساً للتفكير المنهجي في علوم الإنسان والدين والطبيعة، وهو المنهج نفسه – مع الاعتراف بتقدم التاريخ – الذي اختطه فرانسيس بيكون في مؤلفه (القانون الجديد 1604م، وإنّه لمن الضروري التنويه بمنهجية أبي حيان التوحيدي (ت 401ه – 1010م) التي أسست لعقل منهجي ناقد أزاح اعتزالية الجاحظ وتطرف ابن قتيبة الدينوري (ت 889م) باتجاه مذهبية دولة الخلافة. وقد بدا هذا عبر مشاركته في الجدل الديني القائم لا في كتبه (الشعر والشعراء وأدب الكاتب ومعاني الشعر)، وتلك الكتب معالم منهجية ساهمت في محاولة ابتناء نظرية عربية في النقد. والتنويه بالتوحيدي يلزمنا التنويه بمنهجية المعري (973 – 1057م) في رسالة الغفران. وتلك الرسالة محاولة لابتناء فضاء جديد في الشك وإعادة قراءة العالم الإسلامي بروح فردية… هذا المناخ من نهاية القرن الهجري الثالث إلى منتصف الهجري الخامس (العاشر – الحادي عشر) الميلاديين يوازي في تقديرنا مناخ القرن السابع عشر الأوربي (بيكون 1626م – اسبينوزا 1667م – ديكارت 1650م – جان لوك 1683م، حتى يصل داروين 1882م) مع نهاية القرن التاسع عشر.

والقرن الهجري الرابع المعلم الأهم في العصر الوسيط الإسلامي، رغم ضعف الدولة المركزية في بغداد ونشوب الاضطرابات الناشئة عن ذلك الضعف ولاسيما بعد دخول البويهيين بغداد (945م – 320ه). ورغم المناخ السياسي المضطرب، إلا أنّ حركة الفكر والعلم أخذت تتصاعد، فالمعركة انتقلت إلى الساحة المعرفية. ومن أهم أعلامنا – هنا – المتنبي، والشريف الرضي، وابن سينا، وابن نباته، ومهيار الديلمي. والديلم كما نقل ياقوت الحموي (1229م) ينسبون إلى أرض تسمى الديلم وليس النسب عرقياً، وهم شعب فارسي من الشمال على مقربة من (قزوين)، ولكن والد مهيار هاجر إلى بغداد في زمن البويهيين الديالمة الأصل.

وفي بغداد تعرّف (مهيار) إلى الشريف الرضي وهو السيد الشريف الجامع للفضائل، شاعر كبير يجمع بين الغزارة والجودة، نقيب الطالبيين، أمير الحج، أعز العرب روحاً، وقد واجه الخليفة العباسي شعراً حين توليه:

عفواً أميرَ المؤمنين فإنّنا

في دوحةِ العلياءِ لا نتفرّقُ

إلا الخلافةَ ميّزتْكَ فإنّني

أنا عاطلٌ منها وأنتَ مطوَّقُ

وعلى يده أسلم مهيار الديلمي 394ه مخلفاً وراءه المجوسية، لكنّه أسلم متشيعاً حتى غالى في ذلك. ورغم إسلامه المتشيع وغلوه المحسوب عليه عند المؤرخين، إلا أنّ مهياراً لم يفك الارتباط مع الأصل الفارسي، فقد وجد أنّ بإمكانه الجمع بين خصائص العرق، وعلى الأخص في المسألة التاريخية والأمجاد العسكرية للإمبراطورية الفارسية، مذكراً بعلومها على أنّها موازية لأمجادها والتزامات الإسلام… ومما أُثر عنه ابتداعه – على طريقة الشعراء العرب – لحدث قصصي من خلاله يقص رؤيته شعراً، فيستدعي موقف امرأة تسائله:

أعجبَتْ بي بينَ نادي قومِها

أمُّ سعدٍ فمضَتْ تسألُ بي

سرَّها ما علمَتْ من خُلُقي

فأرادَت عِلْمَها ما حسبي؟

وكان السؤال المبتدع يُفصح عن تنازع بين العرب والفرس على أنّهما أكبر مكونات شعوب دولة الخلافة، فالفرس أحضروا معهم إلى الساحة البغدادية الإرث الشرقي مدوناً بلغتهم. وقد قدّم ابن المقفع (ت 759م) عبر ترجماته حالة حضارية للفرس متقدمة على الحالة العربية في العمران والسياسة والفن. ثمّ استشاط ابن المقفع ليواجه الخليفة العباسي (المنصور) من خلال رسالة الصحابة، وهذه الرسالة تبدأ مشروعها أو مسوغ انطلاقتها من برنامج أردشير القائم على الإصلاح في الديانة الفارسية، والإصلاح الديني مقدمة لازمة دائماً لإصلاح سياسي يليه، كما حدث مع مارتن لوثر في القرن السادس عشر والذي ترافق مع الكشف الجغرافي. ويبدو أنّ الإصلاح الديني ضرورة تاريخية، ويعني – هنا – إحالة النص الديني إلى نص قابل لقراءة خارجية وأخرى داخلية، ونتزيد بما نعني ونقول: لا بدّ من تخليص النصوص الدينية من أيدي أدعياء الاستملاك وكأنّها حكر عليهم، بينما تراها القراءات النقدية جزءاً من التاريخ قابلاً لقراءات أعم وأعمق وأشمل. وهذا القراءات قابلة للتجاوز أيضاً، وأُثمّن هنا ما كتبه محمد أركون في (القرآن قراءة علمية) كمقدمة نظرية في الإسلاميات التطبيقية، وابن المقفع في (رسالة الصحابة) التي وجهها إلى المنصور، وكانت تتوجه نحو برنامج إصلاحي على المستويين: السياسي (الخلافة) والديني (النصوص) المقدسة. وقد وضع الرسالة على هيئة تحليل للوضعية الراهنة، فقال: (لا تصلح العامة إلا بإصلاح الخاصة). ثم عرض لوضع القضاء  ولوضع العراق والشام والجزيرة (ثمّ أدرج – عبر الرسالة – السلطة والمعارضة في بنية واحدة، حيث أفصح: (السلطة السياسية بشرية، عقلانية نسبية)، وبذلك ينسف الأساس الميثيولوجي ل (الخلافة). وعن الرسالة يقول طه حسين: (تكاد تكون برنامج ثورة على أبي جعفر المنصور). وفي (الأدب الكبير) يكتب ابن المقفع: (اعلم أنّ الملك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى، (ثمّ استنتج أنّ الإسلام ليس مرجعية في التفكير السياسي).

هذه الآراء – آراء ابن المقفع – شكلت في مخيلة الشاعر مهيار الديلمي موقفاً أيديولوجياً يساعده في ابتناء موقف سياسي معارض والتزام ديني مغالٍ، ففي رثائه لعليّ، يقول:

سلامٌ على الإسلامِ بعدَكَ إنّهمْ

يسومونَهُ بالجورِ خطةَ خاسفِ

هواكُمْ هو الدنيا وأعلمُ أنّهُ

يبيّض يومَ الحشرِ سودَ الصحائفِ

وفي أقصوصته الشعرية المنوه بها يكرس استعلائيته الفارسية:

قوميَ استولوا على الدهرِ فتىً

ومشَوْا فوقَ رؤوسِ الحِقب

عممّوا بالشمسِ هاماتِهمُ

وبنوا أبياتَهمْ في الشهبِ

وأبي كسرى -علا إيوانُهُ-

أينَ في الناسِ أبٌ مثلٌ أبي؟!

ولكن ما مسوغات تلك الاستعلائية؟

تفصح شعرية مهيار عن التنازع العربي الفارسي على أساسين: عرقي حضاري صنع المدنية المبكرة، وسياسي مذهبي. فالفرس تبنّوا (التشيّع) مذهباً، والعرب على دين ملوكهم تبنوا (التسنن) مذهباً وحاكمية، والشعرية الديلمية حجاجية تعتمد النفي والإثبات، تشبه – إلى حدٍّ كبير – الإعلام اليوم. والشعر المدحي العربي يشبه الإعلام الناطق بالعربية اليوم القائم على الثوابت والمسلمات.

 وبعيداً عن الشعر، فإنّ الذي حدث في غزة مؤخراً هو نزاع – في وجه من وجوهه – بين الفرس والعرب، فالفرس يعتزّون بأنّهم قدّموا ل (المقاومة) السلاح الذي (أرهب عدو الله وعدوهم)، والعرب يعتزون بأنّهم أنجزوا المصالحة أو (التهدئة). والعرب الذين نعنيهم هم عرب (الربيع الإسلاموي) هم حلفاء الأطلسي، وهو يحتضر ويتهيأ – في جانبه الأوربي – للخروج من التاريخ. وهؤلاء (العربان) أخرجوا القضية الفلسطينية من عمقها الاستراتيجي العربي إلى سطوح المذاهب والمذهبية التي غدت مفردة قروسطوية تتجافى جنبات العصر عن احتوائها.

وفي ختام أقصوصة مهيار الشعرية يوازن بين (فارسيته) و(إسلاميته)، وفيها اعتزاز فردي في قدرته على التوليف بين أصالة المنشأ ونزاهة المبدأ، يقول:

قد قبستُ المجدَ من خيرِ أبٍ

وقبستُ الدينَ من خيرِ نبي

وضممْتُ الفخرَ من أطرافِهِ

سؤددَ الفرسِ ودينَ العربِ

وتأتي أهمية الشطر الأخير في الخروج من (الأخص) إلى (الأعم)، فلم يستحضر (المذهبية) إنّما استحضر المبدأ وهو الإسلام، وقد كرّس هذا في غير موقع. ولعلّ في رثائه لشيخه المذهبي وأستاذه الشعري الشريف الرضي:

أقريشٌ لا لفمٍ أراكِ ولا يدٍ

فتواكلي غاضَ الندى وخلا الندي

بكرَ النعيُّ فقالَ أُردي خيرها

إن كانَ يصدقُ فالشريفُ هو الردي

وقد خلا الشعر الوجداني، من المؤثرات الداعية إلى النزاع العرقي أو المذهبي، وفي كثير من المواقف ينسى (العرق) كأساس للتفوق. ويستشعر أهمية المبدأ الذي يواجه به خالقه، فقد أنشد معترفاً بنعمة الإيمان:

هو المنقذي من شرك قومي وباعثي

على الرشد أصفيه هوايَ محمدا

وتاركُ بيتِ النارِ يبكي شرارَهُ

عليَّ دماً إن صارَ بيتيَ مسجدا

فالمصالحة التي يُجريها (المتطرف) السياسي أو العقيدي تأتي دائماً بعد تجربة من النفي مع الآخر المخالف، وهي لحظة الموازنة الفعلية والنضج المعرفي. فأبو نواس بعد طول تجربة مع المجون أنشد شعراً جميلاً في الزهد. وديك الجن بعد طول مراس مع الهجاء للعصر والبشر أنجز مشروع المصالحة مع (أهل حمص) بعد ذمهم وهجوهم. وشكسبير بعد وثنيته في مسرحياته مضمرة وصريحة أجرى مصالحة مع المسيحية في (العاصفة). و(دوستويفسكي) وازن ب (إليوشا) الجمود الفردي مع الإيمان المسيحي في الإخوة كرامازوف.

وهنا ندعو رجالات السياسة لقراءة آدابهم وقراءة الأدب العالمي، لعل واحدهم يستشعر معضلة (المصالحة)، وإن استُشعرت آلت من معضلة إلى قضية، وإذ هي ذاك تصبح قابلة للمداورة والمحاورة والسجال والتنازل والتقدم. باختصار تغدو قضية كما قال ابن المقفع (بشرية عقلانية). والبشر ديدنهم العقل، وعند العقل يلتقي المتخالفون – كما عند (الوطن) يلتقي المتعارضون، وعلى أرضه لا على سواها يُبنى المستقبل، والوطن العريق كالوطن السوري علَّم البشر ما لا يعلمون، (علمهم زراعة الأرض وتدجين الحيوان وصناعة العجلات)، أفلا إليه يستعجلون وبين يديه يمتثلون؟!

العدد 1140 - 22/01/2025