القصيدة الجماهيرية… قصيدة الأمة

لا يقل الشعر أهمية في موقعه النضالي المقاوم عندما يكون شعراً مقاوماً ومناضلاً ومحفزاً للإرادات على امتداد ساحها أن تصنع قدرها ونصرها في ميادين عزتها وكرامتها، لا يقل أهمية ذلك الشعر عن طلقة تفسح المجال لقصيدة كي تتجاور قدراً أو مصيراً في استكمال بناء الدروب التي تفضي للنصر والحرية. والطرق التي تمشي باتجاه أهدافها وغاياتها، والخطا التي تمضي بأمنياتها وأحلامها إلى يقين ما قاومت وناضلت من أجله عبر الحقب والأجيال وطناً يقف ويثبت على دعائم عزته، ومنعته، وكبريائه، وأمة تتقدم للموقع الذي احتلته عبر تاريخها الطويل. يتحقق هذا كله فوق خريطة ترابنا العربي من خلال مسيرة نضالية استمرت، وتستمر بزخمها الحاد والمتوهج بحرارة فعلها الحي الخلاق، ما دام شبر من أرضنا مغتصباً، وما بقيت حفنة تراب تئن تحت وطأة عتابها وأساها وهي تستصرخ فينا دماً ظل يبثها حنينه ووجده. فإذا بالنهر يصخب من دم الأحرار، والثوار والذين قدموا لأرضهم، وعرضهم الوطني، ما لم تقدمه أمة في الدهر تجاه وطنها وأمتها! فإذا كان دم شهداء الأمة قد خط مجراه فوق ترابنا، وعبر تاريخنا الجليل، فإن القصيدة كذلك قد خطت مجراها المدوي فوق ترابها، وتاريخها الجليل، خاصة تلك القصيدة الجماهيرية: قصيدة الأمة، التي يتسع تردادها الشجي ليشمل أبناء الأمة كافة، صغاراً وكباراً، وطيوراً وأشجاراً وأنهاراً، ونايات تتغنى بنشيدها الجماهيري، فإذا بالنشيد يصبح لازمة الوجدانات التي تردده، وتحفظه عن ظهر قرب، وتبثه (غنوة) مدرسية وحياتية حتى يشيع بين الناس، ويصبح خبزها اليومي على مائدة نضالها، وكفاحها، وحتى بين الطيور والأشجار التي تستعذب الغناء للوطن.

هكذا فعل الشعر فينا فعل السحر، وما من أمة في الدهر جاورت شعرها وأنين قصب النايات الشجي كما حال أمتنا فيما ذهبت إليه في هذا المجال الحيوي والموجع إلى حد الثمالة والذوبان! ولأن الشعر الجماهيري فيه من الحيوية والحماسة ما يطرب، ويثير، فإن هذا النوع من البث الموجع يحرك فينا كوامن الشجن تجاه أوطاننا، وقضايانا، ويبعث فينا الحمية حمية الكرامة والعزة، ويلازمنا كقدرنا حتى يصبح لا جزءاً منا فقط، بل جزءاً مهماً من تاريخنا الإبداعي والوطني والقومي على امتداد ساحة العرب الشاسعة، التي حفظت في أرشيف ذاكرتها الحية الكثير من الأناشيد الوطنية والحماسية!

وعبر هذه المادة اليوم نقف عند بيتين من الشعر كان وقعهما في الذاكرة العربية عميق التأثير والصدى عبر حقب الحياة، وأجيالها، هما بيتان لشاعر فلسطين الشهيد عبد الرحيم محمود. ستعيش الأجيال ترددهما، وتتغنى بهما ما دام الوجدان العربي يحن للخلاص والحرية، ولو كان درب الخلاص والحرية معبداً بالدم والشهداء، وبأكفاننا التي نحملها على أكتافنا، ونحن نعبر للحياة من دروب الموت والمستحيل، والردى والصمود:

سأحملُ روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياةٌ تسرُّ الصديقَ

وإما مماتٌ يغيظُ العِدا

لا أظن أن هناك ذاكرة عربية، على امتداد وطن العرب، لم تحفظ هذا النشيد، ولم تتغنَّ بكلماته المشبعة بالصمود، والحماسة. نحن أمة تعيش على جمر من العواطف يتأجج بين دفق الدم والنار، ودفق القصيدة، وكلاهما حرائق لا يخمد أوارها!

ولأن الكلمة تفعل فينا فعل السحر في ميدانها، كما فعل الطلقة في ميدانها، فإننا كثيراً ما ربطنا بين فعل النضال، وفعل الشعر، وهذا ما سار عليه شعراء مناضلون آخرون على مستوى أمم أخرى شاركتنا فعل كفاحنا ونضالنا عبر ساحتي الخندق والقصيدة، ولعل بابلو نيرودا، ولوركا يمثلان نموذجين من شعراء المقاومة في عالم يمت لنا بصلة قربى فيما يختص بطموحات الشعوب في سبيل استقلالها وحريتها، وخلاصها من رق القيود والعبودية!

وأما نحن كأمة استقلت بأقطارها الممثلة لخريطة الوطن العربي، وتفرعت أغصان شجرته بين ضفتي المشرق المتوسطي والمغرب الأطلسي فذاك نصف أو منتصف الطريق للاستقلال الوطني الكامل والشامل، ومنتصف الخطوة الأولى للخلاص والحرية!

وقد برزت فلسطين قضية وشعباً على امتداد ساحة العروبة قضية مركزية  ومصيرية لأبناء الأمة كافة، وبرز معها ذاك النشيد الحماسي المدوي باسمها، فإذا بنا أمام انهمار الأناشيد الحماسية كانهمار الرصاص والقذائف من حولنا نصحو وننام على دوي هذا وذاك! وسنظل هكذا حتى تحين لحظة الوعد القادمة في وميض صبحها الذي يجيء من خلال انهماره السماوي في حينه، عندئذ.. يمكن لنا أن نفرد أجنحة أخرى للغناء تتعلق بأمور الحياة، والبناء، والزرع، والحصاد، والحب، واسترجاع الذكريات حول مواقد الليل، والسمر، وهجعة الحقول خدراً لذيذاً يسري في الناس والأشياء من خلال أنين نايات القصب التي تذهب بعيداً بالناس والأشياء متجاوزة حدود الممكن والمحسوس إلى معارج الصعود باتجاه ذاك المطلق الموغل في حضرة الغياب، وبين المطلق والغياب ترنيمة أبدية واحدة تمتد بين مآذن وأجراس القدس، إلى رحابة العالم الشاسع: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة..، والذي يجيء أجمل.

العدد 1140 - 22/01/2025