هل فقدنا فضيلة الوفاء؟!
قبل أيام ضمَّنا مجلس، تناول فيه المجتمعون قصصاً وحكايات واقعية عن تبدّل الأحوال والأصحاب، وكيف أن قلة صغيرة بقيت على حالها متمسكة بقيم الأصالة، التي تغص بها كتب التراث ورسائل الأدباء والبلغاء، ونصائحهم للملوك والسلاطين. فانبرى واحد من المفجوعين بانقلاب الأصدقاء عليه بعد أن فقد منصبه وجاهه، معلناً أنه لم يعد يثق بالناس أبداً، إذ نسي في غمرة فجيعته بأصحابه وخلانه أن الدنيا إذا أقبلت على المرء أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
ويتعجب آخر من تبدل أخلاق الناس ومواقفهم، فعندما كان في عز الموقع وبيده (القلم الأخضر) وهو يأمر وينهى، يوافق ويرفض، يبعد ويقرّب، كانت تنهال عليه الهدايا والولائم كالمطر المدرار، وتلهج الألسنة بخصاله الحميدة وفضائله العظيمة. لكن ما إن طار الكرسي من تحته حتى طار أولئك المداحون الكرماء، بل تحول بعضهم، إن لم يكن أكثرهم، إلى هجائين نقادين، لا يرون فيه سوى اللؤم، والغباء والفظاظة، والافتقار للموهبة والكفاءة، والأخلاق!
وبهذا صح فيه قول بعض الحكماء: من أظهر شكرك فيما لم تأته، فاحذر أن يكفر بنعمتك فيما أتيته.
وربما لم يقرأ قول أبي نواس:
(إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشَّفَتْ لهُ عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ).
والحقيقة أننا لا نعرف جواهر الناس إلا في تقلب الأحوال، وعندما لا تكون بيدنا سلطة فيهابونها، أو شأن يرجونه، أو مكانة ينافقوننا لأجلها. ففي غمرة العمل والمنافسات ننسى أن من نكد الدنيا أنها لا تبقى على حالة، ولا تخلو من استحالة، فهي تصلح جانباً بإفساد جانب، وتسر شخصاً بالإساءة لغيره.
وعموماً لا شيء أضر من الاعتقاد بدوام الشباب والمال والجاه والقوة، وأصحاب الحاجات، وخلاّن السهر والبطر، واللهو والعبث.
ومن أعمدة الحكمة في الحياة أن أقوى الأسلحة بيد المرء هي الصدق، والتواضع، والمسامحة، وقبول العذر ممن أساء إليك، والوفاء لمن وقف معك ولو بكلمة طيبة، وإن أيسر شيء هو الدخول في معاداة الناس، وأصعب شيء في الخروج منها. وإن من أعظم الأخطاء الركون إلى المنافقين، الذين ينمقون الكلام ويزينون لأصحاب القرار أخطاءهم وهناتهم، فيدفعونهم للانزلاق أكثر فأكثر إلى أن يقعوا في مستنقع لا يستطعيون الفكاك منه سالمين وغير ملوثين، (فمن رفعك فوق قدرك، وبالغ في تعظيمك فاحذره ولا تأمنه).
هاتفني منذ أيام صديق محب بشأن الزاوية السابقة، التي عنوانها (المنصب وبعض أعراضه)، فقال لي متسائلاً ومستنكراً: أراك أكثرت وأطلت في أعراض المنصب وأمراضه، ونسيت أو تناسيت أنك في موقع إداري تنطبق عليه تلك الصفات، وربما انزلقت مثل غيرك إلى ما أشرت إليه من مساوئ ومطبات؟! أجبته: كل شيء ممكن وجائز، وإني لمدرك أن أصعب أمر على الإنسان معرفة عيوبه، ولعل كتابتي عن عقابيل المنصب وما يجره من وبال على صاحبه، إنما تشكل محاولة نفسية لتنبيه الذات قبل الغير، ووسيلة لإيقاظ نفسي من غفلتي قبل فوات الأوان. فالعاقل من اعتبر بغيره لا من صار عبرة لغيره. وعلى أية حال لو أننا اتعظنا بغيرنا لما وقعنا في الأخطاء والخطايا نفسها، ولما كررت البشرية آلاف بل ملايين التجارب المريرة. فموضوع العمل العام، والعلاقات الاجتماعية، والصعود والسقوط، أعقد وأصعب من أن تحلها المؤلفات والمصنفات والمواعظ ووصايا الفلاسفة، ودعوات الأنبياء والمصلحين. فما دامت المصالح قائمة والأطماع متضاربة، وغرائز التحكم والتملك، والشهوات والأهواء، والنزاعات، والنزعات العقلية والنفسية موجودة، فمن المحال أن نطمئن لحال ونسكن لقرار، أو نركن لمن غلّبوا الشر على الخير، والمنفعة الخاصة على المصلحة العامة، والنفاق على الصدق الصريح، والشهوة على الفضيلة، والكراهية على المحبة، والحقد على التسامح، والتكبر على التواضع، والطهر على الفحش والفسق والفجور. ولهذا فإن من وجد الصديق الصدوق الذي يفضي له بسره فقد لقي السرور بأسره، وخرج من عقال الهم والغم بأسره.
أما الوفاء فإنه يزرع الثقة في عمل الخير وفعل الأشياء الطيبة، فنفرح للقاء الأوفياء، لأنهم يبرهنون على أن الدنيا ما زالت تنجب الأفاضل، تأكيداً لقول بعضهم:
من يفعلِ الخيرَ لا يعدمْ جوازيَهُ
لا يذهبُ العرفُ بينَ اللهِ والناسِ
وكم من قصص الغدر تمر أمامنا، أو نسمع بها، أو نكون ضحية لها، دون أن تجعلنا نرفض شيمة الوفاء، فما زال الناس يحملون في جنباتهم معاني الوفاء ورد الجميل لأهله، حتى ولو كان الثمن كبيراً والتكلفة عالية. وكم نعرف مقابل قصص الغدر واللؤم والحقد، من قصص الوفاء والمحبة والتسامح والتماس الأعذار للأصحاب، ومد يد العون لهم عندما يميل الزمان بهم، فيدير لهم ظهر المجن، وينفض الناس من حولهم.
أما إذا طفت حكايات الغدر والحقد والنميمة، فإنها كالزبد الذي يعلو الموج، في حين أن الدرر الثمينة تقبع في جوف البحر وفي أعماقه السحيقة. وبهذا المعنى قال الشاعر:
دهرٌ علا قدرُ الوضيعِ بهِ
وترى الشريفَ يحطُّهُ شرفُهْ
كالبحرِ يرسُبُ فيهِ لؤلؤهُ
سفلاً وتعلو فوقَهُ جيفُهْ
حكمة تراثية
(العاقل من يعمل في يومه لغده، قبل أن يخرج الأمر من يده).
عن كتابه: (الخرافة ووأد العقلانية)