«هرطقات» الحكيم كمال الصليبي… رجل الصدمات المعرفية الذي قارع المدوّنات الرسمية في التاريخ!
في (الهرطوقيّ الحكيم: حوار مع كمال الصليبي) الصادر مؤخراً عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت)، يفتح الباحث والكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر حوارات شائكة مع الباحث الراحل الذي استند مشروعه الفكري والمعرفي إلى خلخلة الثوابت ومقارعة المدوّنات الرسمية في التاريخ، والذي شكل كتابه (التوراة جاءت من الجزيرة العربية) (1985م) صدمات معرفية.
الكتاب مجموعة حوارات أجراها مع المؤرخ المسكون بقلق البحث وبهجة المعرفة. وقد سعى أبو فخر إلى تسجيل المزيد من النقاشات الصاخبة مع الصليبي (1929-2011م)، متناولاً قضايا ومواضيع شائكة حول (المسيح عليه السلام، والنبي محمد (ص)، والنهضة العربية، والانسداد التاريخي عند العرب، وتاريخ الموارنة، والمتنبي، وفخر الدين المعني، وطانيوس شاهين، ورأس بيروت، وعن هجرة المسيحيين، والغرب، والإسلام، والأصولية الإسلامية، وموضوعات أخرى).
منذ البداية، ينجذب القارئ إلى عنوان الكتاب متسائلاً: لماذا استخدم أبو فخر مفردة (هرطوقيّ)؟ هل يصحّ استعمال مفردة (زنديق) بمعناها الإيجابي والثوري على اعتبار أنّها أقرب إلى اللغة العربية، وأنّ مصطلح (هرطقة) (المهرطق أو الهيراطيقي) ذا الجذور الكنسية، كان يُطلق على كل إنسان مبتدع ينادي بتعاليم تخالف ما كُتِبَ في الكتاب المقدس؟ وماذا عن القول المأثور (تمنطق فقد تزندق) بما يحمله من تحريم شمولي للعقل والفلسفة. بصرف النظر عن التسميات والدلالات؟ من هذا المنطلق نفهم أن المقصود ب (الهرطوقي) ليس الإلحاد، وإنما من خرج على إيمان محدد أو ابتدع إيماناً جديداً. تماماً كما كان الكاثوليك يسمون البروتستنت في أوربا (هراطقة).
ووفقاً لصاحب الكتاب فقد كان التأريخ الصليبي بحثاً تشكيكياً، لا يحصره النقل السردي والإخباري، ولا تحدّه الأحكام المسبقة، أكانت إيديولوجية أم غيرها. أما فضيلته الأساس فهي الجرأة في تبيان الحقيقة ونشرها، حتى لو اتهمه أعداء الصواب بالهرطقة.
مؤرخ تفكيكي قضى العمر باحثاً عن الحقيقة والصواب
يتنقل الكاتب في حواره بين العام والخاص، وبين المعرفي والذاتي، وهذه المنهجية أضفت مزيداً من الوهج على صناعة الأفكار. و لعل أهم ما يميز هذا الحوار التوازن بين السؤال والإجابة، والتطرق إلى مواضيع عدة دون قطع السياق العام بينها. وقد جاءت أجوبة المؤرخ والمفكر الإشكالي، جريئة وقاطعة دون أن تقع في شرك التشتت والتكرار، أو في فخ الإدعاء المعرفي. إذ حافظ الصليبي على وتيرة واحدة في كل إجابة، متبعاً التوليد الحواري من أجل التفاعل مع المحاور، الذي لم يقتصر دوره على طرح الأسئلة والاستماع إلى الأجوبة، بل كان مُحاوراً يشرع الأبواب التاريخية أمامه.
ويحدد الصليبي طريقته التأريخية والتفكرية باكتشاف الوقائع ونقلها إلى القراء كما ظهرت له، بعيداً من النسج والتأليف. وقد أعانته هذه الطريقة على قلب الكثير من الحقائق والمسلّمات والبديهيات حول تاريخ الأديان والبلدان، وساعدته على إطاحة عدد من الروايات التاريخية من خلال نسف الأحداث التي تحتويها. فكل ما تناقلته الأجيال القديمة من سرديات وحكايات قيل إنها حصلت في الزمن الماضي، استقبلها الصليبي بأدواته التفكيكية، باحثاً في صوابها وحقيقتها. وإذا وقع على دلائل تثبث انعدام سداد إحدى الحكايات التاريخية، أو تزوير بعض جوانبها، يسخر من محمولها، باذلاً جهده في الكشف عن الأسباب والظروف التي تقف وراء تلفيقها وحبكها، أكانت أيديولوجية أم سياسية أم اجتماعية إلخ. يسأل أبو فخر عن الإشكاليات التاريخية التي طرحها الصليبي، ومن بينها تاريخ الموارنة في لبنان. هنا يبرهن صاحب (المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى) على الحقيقة التالية: (لبنان فكرة تجارية، كيان بدأ يُخطَّط له منذ عام 1880م مع مجموعة من المسيحيين الكاثوليك، وبضمنهم الموارنة. ولدوا في الشام، وهؤلاء من الأثرياء الذين أقاموا مشاريع تجارية وخططوا لما بات يُسمّى (لبنان) بحدوده المعروفة التي أخذوها من خريطة رسمها الفرنسيون عام 1861م). ويؤكد الصليبي في أطروحاته أن اتفاقية (سايكس _ بيكو) (هي من جملة التزوير)؛ وأنه قبل عام 1920م لم يكن ثمة مصطلح (لبنان). لا شك في أنّ هذا الاستنتاج لا يرضي أصحاب النزعة الفينيقية والقومية اللبنانية الذين حاججهم مؤرخنا في أكثر من مقالة وأكثر من دراسة قبل رحيله. ويسلط صاحب (تاريخ لبنان الحديث) الضوء على تاريخ بلاده الملفق، إذ يكشف أن وقائع كثيرة خضعت للتزوير، مثل تواريخ العائلات والطوائف، واختراع شخصياته البطولية من أجل تثبيته في الماضي واستواء صناعته في الحاضر. ف(فخر الدين الأول) شخصية غير موجودة كما صورته السرديات التاريخية، بل كان (سنجقداراً) في بيروت وصيدا، أي أن السلطنة العثمانية كلفته بجباية الضرائب في هذه المناطق التي بدأت تزداد كلما وسع العثمانيون نطاق التزامه. وأطلق عليه لقب (المير) لأن (سنجق بيك) تُترجم إلى العربية ب(أمير اللواء). في ما بعد جاء (طنوس الشدياق) و(حيدر الشهابي) وكتبا تاريخ لبنان على أساس أنه (أمير). يسخر المؤرخ من القصص التي تحكى عن (المير) وولديه، (فخر الدين الصغير) و(يونس)، مشدداً على اقتصار أعمال (السنجقدار) الرسمية على جمع الأموال للدولة العثمانية والاحتفاظ بقسم منها في جيبه، وعندما (كبر رأسه وقام بالعصيان)، لقي مصيره الأخير، و(لا بطولة لبنانية في هذه الواقعة). وفيما يتعلق بأحداث لبنان وحروبه المختلفة. فبالنسبة إلى صاحب (منطلق تاريخ لبنان)، كانت الأحداث اللبنانية ضرورية كما تبيّن من نتائجها، علماً أنه كان أول من أطلق مصطلح (الحرب الأهلية) عليها. فمن الضروري أن يتبادل الناس الخلافات كي تسير عجلة التاريخ وتتطور البلاد. غير أن الظروف المتناقضة قد تؤدي، وهذا ما جرى في لبنان، إلى أن يتصادموا ويتحاربوا. بنظرة تفاؤلية، يضيع مسوغها أحياناً، يرى الصليبي أن جيل ما بعد الحرب (أحسن بكثير من الأجيال السابقة). ويعوّل في رأيه التفاؤلي على الجيل الشبابي، معتقداً أنه يتصف بإرادة تجديدية تطرح مواضيع وإشكاليات حديثة على مواقع التواصل الإجتماعي المتوافرة له.
أسطورة (الهجرة المسيحية من الشرق)
في حواراته ينتقد صاحب (البحث عن يسوع، قراءة جديدة في الأناجيل) أسطورة (الهجرة المسيحية من الشرق)، القائمة على السلوك الأقلوي والتمثل بالضحية على الدوام. فيجد أن المسيحيين لم يهاجروا نتيجة الاضطهاد أو هرباً من (سفر برلك)، مؤكداً أنّ المسيحيين لم يتعرضوا للاضطهاد خلال فترة الدولة العثمانية، وهنا يتفق مع الكاتب الفرنسي هنري لورنس، الذي أكد في أطروحته الهامة [Le orient arab] (أي المشرق العربي) أن العصر العثماني هو العصر الذهبي بالنسبة إلى مسيحيي المشرق.
ويرى الصليبي أن السبب الرئيسي وراء هجرة المسيحيين هو تحسين أوضاعهم المعيشية، ويضرب الصليبي عدداً من الأمثلة عن عائلات ميسورة تركت لبنان سعياً وراء توسيع أعمالها ونشاطاتها الاقتصادية. وقد ساعدها على الهجرة والوصول إلى البلدان الأوربية والأمريكية، إتقانها اللغات الأجنبية على خلاف العائلات المنتمية إلى طوائف أخرى. أما الدليل القاطع على ميثولوجيا (الهجرة المسيحية) فهو اندماج المسيحيين في مجتمعاتهم المتنوعة وابتعادهم عن النظر إلى أنفسهم انطلاقاً من الهوية الأقلوية، خدمةً لقضايا مدنية، لا علاقة لها بالهاجس الطائفي أو الديني.
في الحديث عن المتنبي، يخلص الصليبي إلى أن شاعر العرب الأول كان على الأرجح (كيسانيّاً) (كما يشير أبو فخر، تعود (الكيسانية) إلى كيسان مولى علي بن أبي طالب (رض)، وتعتقد هذه الفرقة أن الإمامة بعد (علي) منصوصة لابنه محمد بن الحنفية، لأن علياً دفع له رايته في موقعة الجمل تماماً مثلما كان (علي) صاحب راية الرسول (ص)…)، ويصفه بأنه طويل اللسان. ويحط عند كافور الإخشيدي الذي حارب القرامطة، مؤكداً أنه هو الذي أبقى الإسلام السنّي في العالم.
(الهرطوقيّ الحكيم: حوار مع كمال الصليبي) كتاب لا يستحضر التاريخ من خلال مؤرخ كبير فقط هو كمال الصليبي، لكنه يضيء على وجهنا الإنساني والفكري والعاطفي في أكثر من مقاربة ومقارنة لنا مع الغرب كانت في معظمها إن لم نقل جميعها لصالحنا. إذ لم يكن صاحب (طائر على سنديانة) محباً للغرب بمدلوله الفوقي والاستعماري الجديد، لذا يبدو شديد الميل إلى موطنه وعروبته بوصفها دالاً حضارياً وثقافاً.