مرة أخرى.. انتبهوا للمحاصيل الاستراتيجية!

أصبحت قضية الأمن الغذائي اليوم من أهم القضايا التي تشغل الرأي العالم العالمي، إذ أضحت الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة والخضوع لسيطرة أسواق تتحكم بها القوى الاقتصادية العالمية والشركات العابرة للجنسيات، فأمست الموارد الزراعية من أقوى الأسلحة التي تستعملها الدول الرأسمالية الكبرى ضد الدول النامية، وخصوصاً القمح، الذي يمثّل عنصراً أساسياً في غذاء الشعب، والذي يغطى من الاحتياطي العالمي، الأمر الذي يهدد باندلاع أزمات نقص الغذاء خاصة إذا لم تعوض المواسم اللاحقة هذا النقص، ففي موسم 2007-2008 بلغ العجز مليوني طن.

لقد سجَّلت توقعات منظمة الأغذية والزراعة بشأن الاستخدام العالمي للحبوب في الموسم 2014- 2015 انخفاضاً هامشياً، وارتبطت التغييرات الرئيسية بانخفاض حاد في الاستخدام الصناعي للذرة وفي استخدامه علفاً في الصين، أو في إنتاج الإيثانول في الولايات المتحدة، وتشير التوقعات إلى أن الاستهلاك العالمي من الحبوب الذي يبلغ 2462 مليون طن سيزداد بنسبة 2.1 % (50 مليون طن) عن مستويات الموسم 2013- 2014.

ويتوقع مثلاً أن يسجل استهلاك الأرز زيادة سريعة نسبياً بما نسبته 2.4% ليصل إلى 502 مليون طن في موسم 2014- 2015 بينما تشير التكهنات إلى زيادة أقل في استهلاك القمح الذي سيسجل ارتفاعاً نسبته 1.8% ليصل بذلك إلى 699 مليون طن.

سورية والأمن الغذائي

تأثّر قطاع الزراعة والإنتاج الغذائي كثيراً بسبب الأزمة التي تعصف بسورية، فتراجعت مساهمته من الناتج المحلي من 19.9% خلال 2010 إلى 5% عام 2013 وخلال 2014 انخفضت نسبة المساحات المزروعة بالقمح 76%، والشعير 83%، والشوندر السكري إلى 60%، ومساحة القطن إلى 38%، حسب تصريحات وزير الزراعة بتاريخ 3/12/2014.

تقلّص المساحات المزروعة جاء طبعاً بسبب الأوضاع الأمنية والصعوبات في توفير مستلزمات الإنتاج من بذار وأسمدة وتحرير أسعارها، كذلك انعكس ارتفاع أسعار المحروقات وندرتها وانقطاع التيار الكهربائي على النشاط الزرعي، الأمر الذي انعكس على عمليات الري والنقل إلى مناطق التسويق، كما أن بعض المزارعين لم يتمكنوا من جني محاصيلهم ولا الاستفادة من خصوبة أراضيهم، فأدى كل ذلك إلى رفع تكاليف الإنتاج لتتحول المحاصيل إلى عبء على الفلاح إضافة إلى مشاكل الري والتلوث وغياب التسويق.

دفعت تلك الظروف العديد من المزارعين إلى تقليص المساحات المزروعة وتقليل العناية بمنتجاتهم، وهو ما انعكس على مردودية وحدة المساحة، فانخفضت الريعية الاقتصادية للمحاصيل الزراعية بسبب ارتفاع التكاليف مع غياب التسعيرة المنصفة للمحاصيل، وهو ما كان له تأثير على الأسواق المحلية تمثل بارتفاع أسعار مختلف السلع وفقدانها في بعض الأحيان.

لكن تراجع الزراعة لم يكن وليد الأزمة فقط، فعلى الرغم من الأهمية الاستراتيجية للزراعة في بلادنا، ودورها الكبير في تحقيق الأمن الغذائي الذي كنا نتغنى به، إلا أن السياسات الحكومية في العقد الماضي كان لها دور في تراجع هذا القطاع الهام، إذ تراجعت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 14% عام 2009 بعد أن حققت نحو 22% عام 2002 وهبط عدد العاملين في النشاط الزراعي  من  32 %  إلى  20 %  من إجمالي قوة العمل في سورية، وذلك عندما همش الفريق الاقتصادي القطاع الزراعي في السنوات السابقة بحجة أن تكلفة تأمين احتياجاتنا من الغذاء من السوق العالمي (المعولم) أقل من تكلفة إنتاجها محلياً، متجاهلاً بذلك الأمن الغذائي الذي يعد جزءاً هاماً من الأمن الاستراتيجي، وأحد وسائل ضمان حرية البلدان في اتخاذ قراراتها، وبالتالي الحفاظ على قرارها السيادي، ما دامت الزراعة بخير فالوطن بخير).

لذلك  سعت سورية في تسعينيات القرن الماضي إلى ضمان الأمن الغذائي، وعملت على تطوير القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وحاولت تأمين كل مستلزمات المحاصيل الزارعية وخاصة الاستراتيجية منها (القمح والقطن والشعير والذرة والشوندر)، فوصل إنتاجنا من القمح إلى حدود 3.5 ملايين طن قبل الأزمة، وانخفض إلى الثلث في 2014 وانخفض معه المخزون الاحتياطي الاستراتيجي في بلد كان يعد من البلدان الرائدة على مستوى العالم في الحفاظ على الأمن الغذائي، فالقمح هو مصدر للقطع الأجنبي لسورية التي حققت الاكتفاء الذاتي من هذا المحصول في ثمانينيات القرن الماضي، وأضحت مصدّرة له منذ عام 1994 قبل أن تعود إلى استيراده عام 2008.

وقلصت الحكومات المتعاقبة عدد المحاصيل الاستراتيجية، إذ اقتصرت على (القمح، القطن، الشوندر)، رغم مناشدات الاتحادات الفلاحية والمزارعين بإعادة مادة الشعير إلى قائمة المحاصيل الاستراتيجية نظراً لأهميتها في التغذية البشرية والثروة الحيوانية.

فإذا كان الحفاظ على الموارد المائية سبباً لتخفيض المساحات المزروعة واستبدال بعض الزراعات التي تحتاج إلى كميات من المياه، فإن ذلك يحل باتباع أسلوب الري الحديث وتشجيع الفلاحين على التحول إليه، فمن الممكن إنشاء شركة تتكفل بتأمين مستلزماته كافة، وتقديمها إلى الفلاحين بقروض ميسرة، وهو ما يوفر على الفلاح تكاليف الري ويحافظ على المياه.

إن الحفاظ على الأمن الغذائي اليوم مطلب ملح، ويساهم في استمرار صمود الدولة السورية في وجه المخططات الخارجية، وهو ما لمسناه خلال سنوات الأزمة التي تعصف بنا، إذ باتت الموارد الزراعية من أهم وأقوى الأسلحة التي تستخدم على الصعيد العالمي، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى سياسة ناجعة تضمن لنا أمننا الغذائي في السنوات القادمة، فهل سنلحظ في القريب سياسات تضمن لنا أمننا الغذائي أم أننا سنضرب به عرض الحائط..؟!

العدد 1140 - 22/01/2025