عظمة سلفادور دالي

يؤكد العديد من علماء النفس أن العباقرة لا يولدون في كل مكان وزمان، وإنما هم يولدون من بين الملايين من الناس أفراداً تفصل بين الواحد والآخر مسافات شاسعة من الأمكنة والأزمنة. ومع هذا التفاوت  أرى أن الحياة كريمة على الناس بأمثال دالي وبيكاسو ونيتشه وسقراط وغيرهم من عباقرة التاريخ في المجالات الفنية والأدبية والعلمية والفلسفية التي مثَّلها فلاسفة اليونان في مرحلة ما قبل الميلاد. وأن الكتاب القيم الصادر مجاناً مع مجلة دبي الثقافية (سلفادور دالي أنا والسوريالية) يأتي بما يؤكد أن دالي هو العبقري بحق، ولكن هذه العبقرية مع كل عطاءاتها لا تفلت من المعاناة والألم، وهي حالات موجعة قد يتعرض لها العلماء والعباقرة أكثر مما يتعرض لها البسطاء والعاديون من الناس. وقد أكدها العديد من أدباء العرب وحكمائهم. ومن أوضحهم، أو بتعبير أدق من بينهم عبقري العصر العباسي أبو الطيب المتنبي إذ كان يقول:

ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ

وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ

ولهذا السبب تعرض دالي لمعاناة في مرحلة من مراحل حياته. وبيكاسو هو الآخر لا بد له من أن يدفع ضريبة الموقف. وأما لوركا ولربما هو أسوؤهم حظاً فقد واجه حتفه ببعض الرصاصات، فبكته القصائد ولا تقصِّر بذلك قرطبة، فقد كانت في مقدمة الباكين عليه، ومع كل الدموع فإن روزيتا العانس وأعراس الدم هما أجمل ما يتحدثان عن عظمة وجمال لوركا في كل مكان وزمان(1).

أعتقد أن عظمة دالي تكمن في جوانب عدة من مكونه الشخصي، وهو التكوين الفالت عن مكونات الشخصية العادية الهشة. ويبدو أن من المستحيل أن تختصر مكونات الشخصية العبقرية في مقالة صحفية، وبتعبير أدق نظلمها إذا اختصرنا هذه العظمة بأسطر أو ببعض الجمل والعبارات. إنني أحترم الاختصاصات العلمية، التي هي المقدرة المناسبة للغوص في أعماق العظماء من أمثال دالي وبيكاسو والآخرين من أمثالهما.

ومع هذا أستطيع القول إن الإرادة والإصرار لعبا دوراً كبيراً في حياة دالي، وكان من حسن حظه أن يجد في ظل هذا حباً خارقاً تمثَّلَ في المرأة جالا. ولربما كانت جالا على حق حين وجدت في دالي الشخص المناسب لها زوجاً ورفيق حياة دائم. وبفضل هذا الزواج المتميز استطاع دالي أن يحقق منجزاً روحياً كبيراً جعله يواجه الصعوبات الخارجية ويشق طريقاً وعرة ليصبح في نهاية الأمر الفارس الذي لا منازل له في إسبانيا وفرنسا وفي العالم كله.

 

 

(1) – روزيتا العانس، وأعراس الدم، من أعمال لوركا المسرحية.

 

العدد 1140 - 22/01/2025