القمح.. أمننا.. حياتنا.. اقتصادنا.. هل تتدارك الحكومة؟

لعبة الأرقام في الحرب متناهية الخطورة، ويمكن أن تتحول إلى لعبة قاتلة إن لم توضع لها خطوط استراتيجية تحكم قواعدها.

اليوم، بعد 4 سنوات من الحرب الدامية التي عصفت ببلادنا سورية، نقف على حافة فجوة غذائية كبيرة نتيجة للأزمة الاقتصادية التي نمر بها، ولكن هناك دائماً حلول، تتمثل باعتماد استراتيجية جديدة وتغيير المخطط وتدارك الأخطاء للحصول على نتائج إيجابية مثمرة.

العجز الغذائي (الفجوة الغذائية) هو مشكلة في إنتاج الغذاء، ويعد من أبرز مظاهر الأزمة الاقتصادية للبلاد، بسبب فشل السياسات الاقتصادية والتنموية فيها. والمشكلة الحالية التي تشغل كل الأوساط بعد تفاقم الأزمة الغذائية وخاصة في الحبوب التي تشكل الغذاء الرئيسي للمواطن، هذه المشكلة هي مشكلة ثنائية اقتصادية وسياسية في آن واحد، ولها آثار كارثية وخطيرة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية كافة، لأنه يقع على عاتق الحكومة تأمين الحبوب طيلة أيام السنة، لذلك فهي تلجأ لاستيرادها مما يثقل موازينها التجارية. وقد لجأت الحكومة السورية في السنوات الأخيرة لاستيراد القمح الذي يشكل المادة الأولى والأهم لتحقيق التوازن والحفاظ على الأمن الغذائي للبلاد، وذلك بعد أن تراجع إنتاج القمح ولم يعد الناتج السنوي للمحصول يغطي حاجة الاستهلاك السورية، فنحن نحتاج إلى 3 ملايين طن سنوياً من القمح للاستهلاك. ويعزى تراجع إنتاج القمح بعد أن وصل في السنوات الماضية لتحقيق الاكتفاء الذاتي إلى عدة عوامل، منها:

* الجفاف والظروف المناخية السيئة في عام 2014.

* انتشار مرض الصدأ الأصفر سنة 2013 وذلك بسبب سوء في البذار الذي وزع للفلاحين.

* ظروف الحرب التي تمر بها البلاد، أدت لخروج الكثير من المساحات الزراعية عن الزراعة، وخاصة حقول الجزيرة السورية التي تعتبر المنطقة الرئيسية لإنتاج القمح.

* اتجاه الفلاح إلى زراعات أخرى بسبب إهمال الحكومة للزراعة والفلاح، وعدم تنفيذ وعودها بتأمين متطلباته من السماد والمازوت وتعويضاته ومنحه القروض الزراعية التي كانت تساعده.

* ارتفاع أسعار المشتقات النفطية وعدم توفرها.

كل هذه الأسباب أسهمت في تراجع زراعة القمح وضعف إنتاجه في بلادنا، بعد أن كنا نحقق الاكتفاء، وبعد أن كان المخزون الاحتياطي فائضاً ويكفي لسنوات.

اليوم نستورد القمح، والاستيراد في ظروفنا الحالية ليس ميسّراً، والفجوة الغذائية تزداد وتتوسع، ولكن ما المصير؟! هل تستطيع الحكومة إنقاذ موسم القمح لهذا العام؟ وكيف يمكن أن تساهم الوزارة والحكومة بدعم الفلاح من جديد وتشجيعه على الزراعة ورعاية محصوله، ليأتي بنتائج جيدة وبإنتاج وفير يمكنه أن يسدّ ولو جزءاً من هذه الفجوة؟!

في تحقيق لجريدة (النور) مع الفلاحين، حصلنا على أهم ما يجب أن تعمل عليه الوزارة مع الفلاح لتحقيق نتائج مرضية.

سجلت زراعة القمح هذا العام أعلى نسبة في المساحات المزروعة على امتداد سهل الغاب وسهول منطقة طار العلا وسلمية وريف حماة، وصولاً إلى سهول حمص وباقي المناطق، وقد ساعدت الظروف المناخية وهطول الأمطار على نمو القمح بشكل جيد وخاصة بالنسبة للزراعات البعلية في المناطق الشرقية السورية، ورغم ذلك مخاوف الفلاحين كثيرة وقلقهم على محصولهم كبير جداً، فالمحصول الآن في مرحلة تكوين السبلة، وقد قال لنا أبو صالح، وهو فلاح تجاوز عمره السبعين من العمر: القمح اليوم في طور تكوين السبلة وهناك مثل حفظناه عن أبنائنا: (آذار حبَل ونيسان سبَل)، فإذا كانت السبلة جيدة ونموها سليم فإنها تثمر بشكل جيد إن لم تصبها أمراض. وعند سؤالنا أحد الفلاحين ويدعى أحمد عن زراعته للقمح، وماذا يتوقع هذا العام قال: زرعت كل أرضي قمحاً، وهي تبلغ 25 دونماً، ولكن الهمّ الأكبر لنا هو تأمين المازوت للري، فالمازوت غير متوفر أبداً. وتابعنا حديثنا مع مزارع آخر عن المازوت والري، فقال لنا القمح يحتاج إلى الري مرتين: مرة في نيسان وواحدة في شهر أيار في مرحلة تكوّن الحبة، وهذه السقايات مهمة جداً حتى تكون الحبة جيدة وسليمة والسنبلة مليئة، وفي سؤالنا عن المازوت وهل الجمعيات الزراعية توفره، فهناك حسب ما نعلم مخصصات للفلاح وعدتهم بها وزارة الزراعة ووضعت الحكومة تأمين مخصصات الفلاحين على عاتقها، كان جواب أغلب من قابلناهم في استبيان أجريناه حول المازوت: (لا مازوت تؤمنه لنا الحكومة، وعند سؤالنا عن مخصصاتنا في الجمعيات الزراعية التي نرخص فيها للزراعة لم نحصل على جواب أبداً، بل يَعِدوننا ولا نحصل على شيء، وماحدث في الموسم الماضي كان سيئاً جداً، وقد أضعف الإنتاج، فقد اضطر المزارعون لشراء المازوت بأسعار مرتفعة جداً من الباعة لري محصولاتهم مما سبب لهم خسارة في الإنتاج ودفعوا من جيبهم، في حال ظلت تسعيرة الحكومة للطن ثابتة، والتخوف هذا العام من في هذا الجانب، فالمازوت غير متوفر أبداً، ولا نعلم ماذا تخفي لنا الأيام القادمة، حتى مازوت التجار أسعاره تتجاوز 200 ليرة سورية لليتر، وهذا كارثة للفلاح وسيسبب له خسارة كبيرة جداً مما يجعله لا يكترث للمحصول والعناية به وريه، وهذا سيؤدي لانخفاض نسبة الإنتاج).

وفي استبيان آخر سألنا كم يحتاج من مادة المازوت ري دونم واحد من القمح؟

كانت أجوبة الفلاحين متقاربة بين جميع المناطق، إذ يحتاج ري الدونم الواحد المزروع بالقمح إلى 18 ليتر مازوت وسطياً حسب الاستبيان، والجمعيات الزراعية إن أمّنت المازوت على سبيل المثال تمنح المزارع على الحيازة المزروعة (أي 25 دونم) 75ليتر مازوت فقط، وهذا لا يكفي لري 5 دونمات من الأرض، فماذا يفعل الفلاح في هذه الحال؟!

وبالاقتراب من الجمعيات الزراعية للسؤال عن الموضوع لاحظنا التهرب من الإجابة وقيل لنا: لا يوجد مازوت، وحتى اليوم لا يوجد أي تعليمات أو توجيهات بهذا الخصوص. وفي حديث لنا مع أحد المهندسين (ي.م) قال لنا: الفلاح يعاني الأمرّين، ودائماً الخسارة حليفه ويدفع من جيبه، ومع ذلك فإن عشقه للأرض وحبه للزراعة وإخلاصه لبلده تجعله يزرع ويقبل بالخسارة، ولكن في السنوات الأخيرة تعب الفلاح وأرهق، فاتجه إلى الزراعات التحميلية التي تأتي بمردود قليل أدى إلى تراجع زراعة المحصولات الاستراتيجية، فمثلاً هذا العام تراجعت زراعة الشوندر السكري إلى حدود دنيا كبيرة، فتجد 50 دونماً مزروعة من بين 3500 دونم، بينما كانت في السنوات الماضية تتجاوز ثلث مساحة الأراضي في سهل الغاب ومنطقة طار العلا. وعند السؤال عن السبب قال: عدم اكتراث الحكومة للزراعة والعناية بها، ووعودها للفلاح التي لم تكن سوى وعود خلبية لا أكثر، وخاصة ما حدث في العام الماضي من ارتفاع في سعر المازوت سبب كارثة حقيقية للفلاحين وخسائر كبيرة، فالفلاح يذهب إلى الساحل لشراء المازوت، بأسعار مرتفعة جداً تجاوزت 200ليرة سورية لليتر الواحد.

فهل تتدارك الحكومة واقع القمح وتؤمن المازوت للفلاح وتعيد للزراعة اعتبارها؟

اليوم نحن أمام خيار مصيري بتدارك تفاقم الفجوة الغذائية والمحافظة على أمننا الغذائي وإعادة قوته وصيانته بما يضمن استمرار مسيرة الحياة وارتفاع الاقتصاد الوطني ويخدم المصلحة العامة للوطن.. فالقمح غذاؤنا.. أمننا.. حياتنا اقتصادنا.. فلنحافظ عليه ولنحمه.

العدد 1140 - 22/01/2025