ممدوح عدوان في «حيونة الإنسان»: سـيرة الوجـع الإنساني
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية لرحيل الأديب الكبير ممدوح عدوان، نتذكر ممدوح عدوان الذي دافع عن حقنا في الجنون وفضح (حيونة الإنسان) حين يفتك بأخيه في الإنسانية، والآن يفتك بشرٌ بإخوتهم في الوطن أيضاً.
في ذكرى رحيل هذا المبدع الشامل الذي أخلص لقلمه ووطنه أقرأ أحد كتبه المهمة (حيونة الإنسان) تحية له ولعطائه الثر والمميز، ولعلاقة الأفكار الواردة في الكتاب بواقعنا الحالي:
(المسألة إني أرى أن عالم القمع، المنظم منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على حيونة الإنسان، أي تحويله إلى حيوان).
هكذا يقدم الراحل ممدوح عدوان لكتابه الممتع (حيونة الإنسان).
هو في كتابه هذا أديب باحث، باحث يتعمق في تحليل ظاهرة القمع وتشيؤ الإنسان في ظل القوى القامعة لإرادته وآرائه ورغباته، وتسلط الذين يريدون التفكير نيابة عن الناس، بل والتصرف بمصائرهم باعتبارهم الأفهم والأحرص على مصالح (الشعب والوطن)! يبحث في ورطة الإنسان الأعزل أمام سطوة القوة الغاشمة، حيث كانت (فروات رؤوس الهنود الحمر تؤخذ للذكرى لتعلق في بيوت الأرستقراطية الأوربية والأمريكية الراقية والديمقراطية، بينما نساؤهم يغمى عليهن عند رؤيتهن لفأر). وكأديب يستحضر حشداً من الأعمال الأدبية وكبار الكتاب والمفكرين الذين عرفهم تاريخ البشرية، ويقتطف أجزاء من نتاجهم الإبداعي (مسرح، رواية، سينما، شعر…) ليضيء موضوعه بعين الكاتب الناقد، محاولاً إظهار الصيرورة التي تؤدي بالإنسان إلى درك أدنى من الحيوان حيث الأخير لا يأكل لحم أبناء جنسه، لا يعرف الاغتصاب والشذوذ وغيرها من (إبداعات) الإنسان في مسيرته الطويلة باتجاه… الحيونة! تحت ذرائع ومقولات شتى(دينية، قومية، أيديولوجي…).
يأتي كتابه هذا وكأنه استكمال لكتابه النثري الذي أصدره في بداية ثمانينيات القرن المنصرم (دفاعاً عن الجنون)، أو أنه ينتمي إلى (الجنس الأدبي) نفسه، فعلى غلاف الكتاب السابق نقرأ:
(كان لدى الإنسان حلم جميل.. لكن تتالي الأحوال فتح في هذا الحلم جرحاً.. وبين الحين والآخر ينتبه الإنسان إلى خسارته الفاجعة هذه، فيدرك أنه صار يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان، وحين يقاوم تتخذ مقاومته نوعاً من أنواع الجنون).
تتنوع فصول الكتاب مع تشعب الموضوع عمقاً في التاريخ والفلسفة والأدب، فمن ورطة الإنسان الأعزل إلى الدكتاتور، مروراً بـ (صناعة الوحش.. صناعة الإنسان)، مسؤولية الضحايا، القامع والمقموع، الجلاد الذي ينتقم من ماضيه، (السلبطة) كظاهرة ملموسة في مجتمعات القمع، أصل العنف، الدين والحكم، الحاشية، و(قلت للطاغية).
يتكرر في أكثر من مناسبة الاستشهاد بقصة العسكري الأسود ليوسف إدريس، كنموذج لأدب السجون، حيث التشوه الذي يصيب الإنسان في طرفي المعادلة: السجين والسجان. كان عباس (الجلاد) يصل في توحده مع مهنته في تعذيب السجناء إلى درجة يفقد معها وعيه وصوابه، لذلك كان بجانبه أثناء عملية التعذيب رقيبان عملهما التدخل في الوقت المناسب لانتزاع المتهم من براثن عباس.
في (مسؤولية الضحية) يذكر بالحكمة الريفية التي تقول: إن الإنسان الذي يخاف من الوحوش يغريها بافتراسه. وكأن للخوف رائحة مهيجة، (قد تمر بكلب فيهر عليك بصوت عادي أو استفزازي، فإذا تابعت سيرك على نحو طبيعي فإنه قلما يهاجمك، ولكنك إذا ركضت أمامه فكأنك تدعوه إلى مطاردتك ومهاجمتك).
وفي (الجلاد الذي ينتقم من ماضيه) يحضر سارتر وسعيد حورانية والدكتور مصطفى حجازي صاحب (سيكولوجية الإنسان المقهور) – ويقارن بين وضع المقهور الذي حين ينتصر ينقلب إلى صورة أخرى لجلاده وبين ظاهرة الأثرياء الجدد الذين (يريدون في كل حركة من حركاتهم أن يثبتوا لأنفسهم قبل الآخرين بأنهم أثرياء حقاً).
ويدخل في أعماق شخصية الإنسان الشبيح (كما سماه منذ ذاك) المتنمر الذي هو في مكان آخر، عند ولي نعمته، قطٌّ جبان يتلقى الإهانات ويرضى بأتفه الأعمال ما دامت تكسبه رضا (المعلم). ويستشهد من بين الاستشهادات الكثيرة بقول عبد الرحمن الكواكبي: (وكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان).
لا يتسع المجال في هذه العجالة للدخول أكثر في عوالم هذا الكتاب الغني والممتع، لكن لا بد من الإشارة إلى أن ممدوح عدوان الذي جعل الحرية هاجسه الأول في كل ما أبدعه من شعر ومسرح ورواية وأعمال تلفزيونية ومقالات، لم يفترق عن هذا الهاجس في كتابه هذا الذي يمكن اعتباره مرجعاً هاماً في توثيق التدهور المريع في أحوال الإنسان، في رصد الدرك العميق الذي وصلت إليه الإنسانية، رغم كل ما نسمعه في الإعلام من شعارات عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ورغم العشرات من المنظمات والهيئات التي تجعل الإنسان محور اهتمامها. لكن المصالح حين تتعارض لا يبقى هناك أثر لما قيل منذ قليل عن المحبة والتسامح والتعاون، حين يحس الكبار أن الخطر يتهدد علياءهم لا يبقى إلا الكشف عن الوحش المختبئ في الأعماق الكامنة للإنسان. والأمر هنا مرتبط بالظروف الاجتماعية الاقتصادية والنشأة ومنظومة القيم السائدة في المجتمع، لكن كل هذا في النهاية لا يصمد كما قلنا أمام لغة المصالح (الاقتصادية خاصة) .
ممدوح عدوان كعادته دائماً يدق ناقوس الخطر.. إننا نعيش في غابة، والمسافة بين الإنسان والوحش صغيرة لدرجة أن أيّاً منا يمكن أن يكون الضحية أو الجلاد.