هل ما حصل في اقتصاد ألمانيا يحصل في سورية؟

ما يلحظه المتابع للشأن الاقتصادي وحركة الأسواق في سورية، يجد أن التجار في الأسواق العامة تجاوزوا مرحلة التذرع بارتفاع تكاليف الإنتاج والاستيراد والنقل والشحن، وصعوبات تأمين القطع الأجنبي وفتح الاعتماد، وبدؤوا بمرحلة أخطر وهي مرحلة احتكار البضائع وذلك تبعاً للحركة المتذبذبة التي يشهدها سعر صرف العملات الأجنبية في الآونة الأخيرة وخصوصاً الدولار.

وهذا ما أكده الخبير الاقتصادي نضال طالب لـ(النور)، إذ قال: (تشهد الأسواق السورية حالة من الاحتكار فرضتها ظروف الأزمة من جهة، وغياب دور المؤسسات الرقابية المعنية بحماية المستهلك من جهة أخرى، وما كرس هذا الاحتكار مؤخراً هو تذبذب سعر صرف الليرة السورية، فالأخطر من انخفاض قيمة العملة المحلية، هو عدم استقرارها عند نقطة معينة تضمن للأسواق مرحلة زمنية تستطيع من خلالها إتمام عمليات البيع والشراء دون التأثر بمخاوف تذبذب سعر الصرف على المدى المنظور).

ومن خلال جولة (النور)، على مكتبات الحلبوني لشراء بعض القرطاسية، امتنع أصحاب عدد من المكتبات عن بيع (ماعون) ورق واكتفوا ببيع جزء منه، بالسؤال عن السبب قال أحدهم: (إن قمنا ببيع الماعون بسعر 800 ليرة سورية فإننا لا نضمن أن نشتريه بهذا السعر من المستودعات الكبيرة)، فقد كان سعر الماعون الواحد لايتجاوز 125 ليرة سورية، قبل الأزمة، ووصل الآن إلى 800 ليرة سورية.

كذلك الأمر في سوق المرجة لمحركات المياه، التي زاد الطلب عليها في ظل انقطاع المياه لفترات طويلة عن غالبية مناطق العاصمة، فقد كان سعر المحرك الصيني ماركة (ليو) نصف أنش قبل أسبوع 8500 ليرة سورية، وبعد يومين تبين أن سعر المحرك 9000 ليرة سورية، بينما المحركات الإيطالية فقد كان سعر الواحد يتراوح بين 27 ألفاً و28 ألفاً، ووصل سعرها اليوم إلى نحو 30 ألف ليرة سورية.

وقال أحد تجار الهواتف المحمولة في دمشق لـ(النور): (مبيعاتنا انخفضت بشكل عام بحدود النصف إلا أن هناك إقبالاً ملحوظاً على الهواتف المحمولة ذات الميزات التقنية العالية والحديثة رغم ارتفاع أسعارها، بسبب تفاوت سعر صرف الدولار، كذلك بدأ الناس يستعيضون بها أجهزة أخرى أرخص، بهدف الاستفادة من ميزاتها التكنولوجية في الاتصال والتواصل من أجل ضغط النفقات المالية المخصصة للاتصالات العادية).

مشيراً إلى أن هذا الإقبال مردّه إلى التقنيات التي تمتلكها هذه الأجهزة في الاتصال كخدمة (الفايبر) و(الواتس أب) و(البريد الإلكتروني) وغيرها ما يوفر على المستخدمين تكاليف كبيرة مقابل الاتصال العادي.

وقال أحد الباعة: (بات ارتفاع الدولار وهبوطه المعيار الذي نسير عليه في تحديد الأسعار.. لقد ألغينا طلبات لبضاعة من الصين بسبب ارتفاع سعر الدولار وعدم استقراره.. فاليوم الواحد يشهد أكثر من سعر وهذا خلق لدينا حالة من عدم الاستقرار في التسعير).

وقال أحد المواطنين: (منذ أسبوعين زرت وكالة لبيع الكومبيوترات المحمولة وعاينت الأسعار، واليوم زرت المكان نفسه، فوجدت ارتفاعاً في أسعار الأجهزة كلها بما يقارب 5 آلاف ليرة لكل جهاز).

عن هذه النقطة علّق طالب بالقول: (إن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في السوق السورية وما شهده الاقتصاد السوري من صور متعددة للتضخم يعود إلى عاملين رئيسيين، الأول هو انخفاض سعر صرف العملة المحلية وعدم استقراره، والثاني هو جشع بعض التجار وقيامهم بعمليات احتكار للسلع والخدمات، وكلا العاملين يرتبطان بالسياسة النقدية المتبعة في الاقتصاد السوري، لأن المحتكر يبني قراره على أساس تذبذب سعر الصرف والتخوف أو الأمل بارتفاع جديد لأسعار السلع أي انخفاض جديد لسعر صرف العملة المحلية).

تغير طرق ضخ القطع الأجنبي

وانتقد طالب الطريقة التي يتعامل بها (المصرف المركزي) في امتصاص موجة الطلب الكبيرة التي يتعرض لها السوق بين الفترة والأخرى، فقال: (لا بد من اتخاذ كل السبل لتحقيق استقرار في سعر الصرف وتبني رؤية نقدية ومصرفية واضحة تستند إلى أدوات وآليات واضحة، إذ يلاحظ أن اعتماد مصرف سورية المركزي، على مكاتب و شركات الصرافة منذ بداية الأزمة لإدارة الكميات المعروضة من العملة الأجنبية و اعتبارها منافذ بيع للقطع الأجنبي دون رقابة فعلية وعملية أثبتت إلى حد ما عدم نجاحها و الدليل على ذلك إغلاق الكثير منها، و لعلنا نجهل سبب عدم إشراك منافذ بيع القطع الأجنبي العديدة المتوفرة في المصارف التجارية الموزعة في أنحاء القطر والخاضعة إلى حد ما لرقابة حكومية، أو عدم الاعتماد عليها).

فيما لفت رئيس اتحاد غرف التجارة غسان قلاع، إلى مشاركة المواطن بالحوار والنقاش في الشأن الاقتصادي مجدداً انتقاده تحميل التاجر كل ما يحصل في السوق النقدية، وزرع في ذهن المواطن أن خصمه هو التاجر، مؤكداً (أن الحلول عبارة عن أفكار مشتركة يقدمها مجموعة من المعنيين بالاقتصاد إلى الحكومة لتاخذ القرار المناسب).

وقال القلاع: (إن الوزراء الذين تعاقبوا لم يعطوا الفرصة لتطبيق فكر اقتصاد السوق الاجتماعي ومضامينه التي اعتمدت)، موضحاً (أن السياستين النقدية والاقتصادية يجب أن تكونا كسكة القطار ويجب عدم الانحراف عنها).

غياب دور الحكومة

وأوضح د. أكرم الحوراني رئيس قسم المصارف في كلية الاقتصاد، (أن الحكومة تحاول تحقيق استقرار في الأسعار والمحافظة على حد أدنى من المدخرات وتأمين متطلبات الأمن والدفاع لكن هناك نقصاً في الشفافية في التعامل مع المواطن)، لافتاً إلى أن من يحدد صرف الدولار هم قلة من المضاربين الذين لهم علاقات مع بعض ضعاف النفوس في الأسواق، وهي لا تقتصر على سوق دمشق للأوراق المالية ما يضطر المصرف المركزي للتدخل بكميات كبيرة من القطع لتمويل الاحتياجات غير التجارية التي تعد الحامل الأساسي لسعر الصرف الأعلى.

ورأى رئيس قسم المصارف في كلية الاقتصاد أن المحافظة على سعر الصرف بـ 50 ليرة لمدة ربع قرن ليست إنجازاً لأن التكلفة الحقيقية لهذا الموضوع ستظهر قريباً عندما تتكشف احتياطيات المركزي من القطع منتقداً سياسة الانفتاح الاقتصادي وتحرير أسعار المواد التي أدت إلى تراجع العملية الإنتاجية وزيادة البطالة والفقر.

وفي هذا المجال ، أشار طالب إلى أداء (وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك)، وشدد على أهمية أن تلعب الوزارة دوراً محورياً عوضاً عن تشديدها الدائم على ضرورة ضبط الأسواق.

ومن جهة أخرى قال طالب: (لا بد من قيامها باستخدام الأدوات التي تملكها من مؤسسات تدخل إيجابي ومؤسسات استهلاكية وخزن وتسويق وغيرها والتدخل بحجم أكبر وبصبغة اجتماعية وليس بهدف ربحي، التدخل موجود حالياً ولكن بشكل خجول وبهدف ربحي، لا بد من معاقبة المحتكرين ومن الضروري زيادة المعروض من السلع في السوق لتحقيق التوازن في الأسعار، والحكومة هي الوحيدة والقادرة على لعب هذا الدور من خلال مؤسسات التدخل الإيجابي لديها).

ما تمر به سورية عاشته ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الشركات تعطي إجازة ساعية للموظفين ليتمكنوا من شراء أغراضهم وحاجياتهم الأساسية قبل أن يرتفع سعرها، كما كانت بعض الشركات تدفع مرتبات موظفيها كل أسبوع، وذلك حتى لا تخسر بهبوط العملة مع نهاية كل شهر.

إلا أن هذه المقاربة لم تكن دقيقة بالإسقاط على الوضع السوري، بالنسبة لطالب، الذي ختم قائلاً: (لا شك في أن ما تمر به سورية من ضغوط ومفرزات للأزمة انعكس بشكل كبير على مجمل نواحي الاقتصاد وبشكل خاص على حياة المواطن وصعوبة تأمينه لسبل الحياة إلا أن هذه الأوضاع لا يمكن مقارنتها مع أوضاع ألمانيا بعد الحرب العالمية من جهة الانخفاض الكبير لقيمة العملة المحلية أسبوعياً).

الجدير بالذكر أن مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك في دمشق، أكدت أن هناك عدداً من ضعاف النفوس لجؤوا إلى تحريك أسعارهم، متذرعين بحججٍ واهية كارتفاع أسعار الصرف.

ووجهت بذلك للتشدد بضبط المخالفات وعدم التهاون في أيٍّ منها، مركزاً على متابعة المواد الأساسية والمحروقات.

العدد 1140 - 22/01/2025