التعفيش والعودة إلى نقطة الصفر

 العودة إلى نقطة الصفر… أربع كلمات باتت تجسد حال السوريين المهجّرين اليوم، فقد خرجوا من بيوتهم بحثاً عن أمن مفقود، ومن يعلم إن كان ذاك المسكن أحيل إلى أنقاض أم أنه مازال واقفاً ينتظر عودة أهله ليبثوا الحياة من جديد في هوائه الجاف، ويعيدوا الدفء لجدرانه الباردة، ويضيئوا النور في غرفه المعتمة، وأن يضعوا لمساتهم المرتبة على أثاثه المبعثر المغبر، ذاك الأثاث الذي صرفوا مدخراتهم لشرائه مرة وتجديده مرة أخرى، ذلك الأثاث نفسه الذي سُحب من بين جدران منازلهم مرغماً، ليوضع في سيارات كبيرة ويرمى في مستودعات كانت مهجورة فارغة قبل أن يسطو ضعاف النفوس على منازل المهجرين ويستولوا على متاعهم ليملؤوا مستودعاتهم حتى الجمام. فمنذ متى كان السوري يقتحم منزل جاره وابن بلده ويسرق ممتلكاته؟ منذ متى أصبحت السرقة والنهب من شيم أهل بلادنا الذين لطالما كانت الأمانة من طباعهم المتأصلة والنبيلة، فما الذي تغير؟!

إنها الحرب التي صبغ سوادها على قلوب الكثيرين، فهي كالثقب الأسود الذي يلتهم كل شيء حوله، فكانت الأمانة من أثمن ما فُقد داخل ظلامها، وتركتنا نعاني من أثر فقدانها المدمر.

وإن كنا نتحدث عن منازل فرغت ومستودعات ملئت، فماهي إلا محاولة للوقوف عند ظاهرة هُمِّشت من قبل كثيرين، ولكنها استشرت وانتشرت منذ بداية الحرب، فلا يمكن أن ننسى كيف هُرِّبت مصانع حلب إلى دول الجوار، وكيف تملّك الدواعش كل ما وقع تحت أيديهم من مال وذهب ومعامل ومصانع ونفط فضلاً عن مناطق أخرى كثيرة لم تُرحَم من قسوة من عاث فيها فساداً، وعلى وجه التحديد المناطق غير الآمنة. فمن اختار البقاء فيها وقد سبق أن فقد بيته لم يجد من يمنعه من كسر باب أحد المنازل والعيش فيه، أو سرقة بضاعة المحال الموجودة وإعادة بيعها من جديد بأثمان بخسة لا تصل إلى ربع قيمتها الحقيقية، لتجد سبيلها بطرق لم تعد تخفى على أحد إلى الخارج لتباع في أسواق أصبحت تعرف بأسواق التعفيش التي أُتخمت وفاضت بما فيها. وقد وجدت هذه الأسواق مكاناً لها في كل قرية وبلدة نازفة، وفي كل محافظة مصابة (إدلب، درعا، دير الزور، اللاذقية، حمص، حماة، دمشق وريفها، حلب وريفها الواسع…وتباع فيها البضائع المسروقة المختلفة (جملة ومفرّق) وتنشر ضمن صفحات التواصل الاجتماعي على أنها مستعملة، فيتهافت عليها كثير ممن يظنون فعلاً أنها مستعملة، ومنهم من يعلم في صميمه أنها مما جرى تعفيشه، ويُقبل على شرائها رغم ذلك.

كلنا نسمع عن أبنية تباع بما فيها، وسيارات لا تنتهي تنقل فوق عجلاتها آلاف المولدات والآلات ومئات آلاف الأجهزة الكهربائية الجديدة والمستعملة، وقد أصبحت السرقة مستويات تقسم وتوزع على عصابات النهب المتخصصة من الأثاث المنزلي بكل أنواعه، إلى حديد المنازل المهدمة، حتى الأسلاك الكهربائية لم تسلم من دناءة نفوسهم، فأخرجوها من جدران المنازل الخاصة والطرقات العامة وصهروها ليخرجوا نحاسها ويبيعوه مقابل القليل. وهذه الروايات للأسف ليست مجرد إشاعات بل واقع مقيت سبب شرخاً كبيراً في نفوس السوريين، وجرحاً عميقاً ستصعب معالجته لما له ممن آثار كبيرة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.

يتخذ البعض الفقر والتهجير ذريعة لكي نرضى بشراء المتاع المسروق، نظراً لارتفاع سعر الجديد وعدم القدرة على الحصول عليه، وحتى الذين لم يتعرضوا للتهجير أغراهم السعر المنخفض وانضموا إلى الذين ضعفوا أمام قسوة الحرب وكانوا من رواد أسواق التعفيش لإحضار ما يناسب بيوتهم ومحلاتهم.

 نحن لا ننكر وجود شريحة كبيرة من الناس الذين تعففوا عن شراء المسروقات وترفعوا عن السرقة، وآثروا العمل الصالح للحصول على الرزق الحلال، ولكن عندما قبلت فئة ما في أول الأمر شراء المسروقات، أصبحنا مسؤولين عن تشجيع السارقين والمعفشين على الاستمرار في أعمالهم الوضيعة، وشركاء صامتين في هذه الجريمة الأخلاقية، لأننا لم نمنع أنفسنا وغيرنا من إقصائهم ومقاطعتهم للحد من تجارتهم التي سنكون أكبر الخاسرين بسببها، لأنها تجارة الظل التي تصب في جيوب منتهزي الحروب والأزمات، والتي ستلقي بظلها المريض على اقتصادنا المتعب، فبينما تصب هذه الأموال لتنشئ مشاريع جديدة تنشط الاقتصاد، ستذهب لشراء ما كان أصلاً ملكنا من جديد. هذه الأموال المهدورة في شراء السلعة نفسها مرتين لن يستفيد منها اقتصادنا الوطني، بل ستكدّس في خزائن المعفِّشين. وإن فرضنا أن المصارف فتحت باب القروض أمام الناس فستذهب أموال القروض للكساء وفرش المنازل بالأثاث والمستلزمات الضرورية في كل منزل، ولن يتم استثمارها بالشكل الصحيح الذي ينبغي له أن يدفع عجلة الاقتصاد في مشاريع صغيرة ومتوسطة، فيقع المواطن المستنزف في دوامة الدين وسداد القروض والفوائد المتراكمة عليه، فكيف سيكون حال من لا يؤمّن سوى الحد الأدنى من الطعام والشرب ولا يستطيع دفع إيجار مكان إقامته إلا بشق النفس؟! ما الطريقة المشروعة التي ستمكنه من تعويض ما نُهب وسرق وهدم؟

نحن اليوم بحاجة للعودة إلى الأخلاقيات التي تربينا عليها، وبأشد الحاجة لأن تقوم وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بضبط البضائع المسروقة ومصادرتها، ومعاقبة كل من راودته نفسه أن يتاجر بممتلكات الناس المسروقة والمنهوبة، وكل من أعطى لنفسه الحق ببيع ما لا يملك، وأن تمنع بشكل جاد وحازم كل وسيلة تساعد على انتشار (سوق الحرامية)، وذلك بهدف حماية أهل بلادنا من الوقوع في كماشة مستغلي الأزمات.

العدد 1140 - 22/01/2025