مناقشة حول الاستثمار الأجنبي المباشر
يتعلق أحد أكثر النقاشات إثارة للخلافات داخل ميدان علمَي الاقتصاد والاجتماع بالتأثير التنموي للاستثمار الأجنبي المباشر على الاقتصادات الأقل تقدماً في العالم. ويشترك الكثير من العلماء والباحثين في هذه النقاشات، ويخرج بعضهم من خلال بناء علاقة بين المؤشرات الكلية للاستثمار الأجنبي المباشر، والتنمية الاقتصادية في عينة من البلدان، باستنتاجات حول العلاقة السببية بين الاستثمار الأجنبي المباشر والتنمية.
وتبدو النتائج المستقاة من هذه الاستراتيجية البحثية مختلطة، ومثيرة للخلاف بدرجة كبيرة، ومع ذلك تذهب كثرة من الأدبيات في مجال علمي الاقتصاد والاجتماع إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر يضرّ بالاقتصادات الفقيرة. والنصيحة السياسية التي تنبع من هذا التحليل هي ببساطة ضرورة أن تقوم البلدان الفقيرة بتقليص الاستثمار الأجنبي المباشر، أو إلغائه، لأن الاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر يقود إلى نمو اقتصادي على المدى القصير، لكنه يقود أيضاً إلى تراخٍ في الوتيرة الاقتصادية على المدى البعيد.
يقوم الاستثمار الأجنبي المباشر بإنشاء شركات احتكارية ثنائية أو متعددة في السوق، وفي نهاية المطاف سوف تبدأ هذه الشركات في تصدير القيمة الفائضة خارج البلد الذي تم اختراقه.
إن هذا الأثر، الذي يجري تجميعه من أنشطة الشركات على المستوى الجزئي، يتفاعل مع عدد من الآثار الاقتصادية الكلية التي سببتها مختلف العوامل الخارجية السلبية الناجمة عن الاستثمار الأجنبي المباشر (وهي التخلف، التفاوت الاقتصادي، التفاوت القطاعي والجغرافي.. إلخ)، مما يضر بالنمو الاقتصادي.
لقد عارض هذه الرؤيةَ علماءُ اقتصاد واجتماع آخرون، ورأوا أن الاستثمار الأجنبي المباشر له آثار جيدة على الاقتصادات النامية، حتى إن لم تكن بمثل جودة تكوين الرأسمال المحليّ. فالاستثمار الأجنبي جيد بغض النظر عن مصدره، وهو يقود إلى إحداث تنمية اقتصادية، لأنه، أي الاستثمار الأجنبي المباشر، حسب رأيهم، يوفر مجموعة واسعة من الفوائد للشركات والاقتصادات التي تحصل عليه.
أولاً- يجلب الاستثمار الأجنبي المباشر المعرفة والقيم الغربية الجوهرية على شكل تقنيات إدارية، وأخلاقيات عمل وسلوكيات أصحاب المشاريع، وشدة العمل، وتقنيات الإنتاج.
ثانياً- يتيح الاستثمار الأجنبي المباشر إمكانية الرقي الصناعي عن طريق ربط الشركات وتقييدها داخل شبكات العمل التنموية والبحثية العالمية، ومن ثم يحقق نقل التكنولوجيا، وأيضاً عن طريق تقديم قدر كبير من الرأسمال الاستثماري.
ثالثاً- يتيح الاستثمار الأجنبي المباشر إمكانية نمو المشروعات من خلال توفير النفاذ إلى الأسواق الغربية الجوهرية، ويوفر هذا النمو بدوره مصدراً لوظائف جديدة، ويعمل على تحفيز الطلب على المدخلات من جانب الموردين المحليين.
رابعاً– يعمل الاستثمار الأجنبي المباشر على إدماج مدخلات جديدة للسوق من شأنها تقليص احتكار الاقتصاد المتلقي.
وفي تناقض صارخ مع هذا التقييم، تقف مجموعة من العلماء والأكاديميين في الغرب والشرق، الذين يعتبرون الاستثمار الأجنبي طليعة الإمبريالية الاقتصادية الجديدة التي تروج لتنمية (غير مترابطة الأوصال). ونظراً للملكية الأجنبية للشركات، لا تتحقق الروابط العادية التي يمكن أن تتطور في سياق العمل التجاري المحلي، ويتم تصدير الأرباح إلى خارج البلد. وعلاوة على ذلك تعتبر الشركات الأجنبية طفيلية بشكل عام على الاقتصاد المتلقي (أو المضيف). إنها تسعى إلى بناء نفسها كشركات احتكارية، وأن تحصل على حصة السوق المحلي، كما أنها تنقص من قدر الاقتصاد المحلي عبر القضاء على:
أ- التنمية والبحث على المستوى المحلي.
ب_ الطلبات المقدمة للموردين المحليين، بل وحتى الإنتاج المحلي ذاته (عن طريق بيع سلع منتجة في أماكن أخرى من الإمبراطورية متعددة الجنسية في السوق المحلي)، وهي عملية يشار إليها باسم (تدمير السوق). ونتيجة لذلك تتسع الفجوة بين متلقي الاستثمار الأجنبي المباشر وبلد المنشأ والارتكاز للشركة متعددة الجنسية.
يستطيع كل طرف من أطراف النقاش الدائر حول الاستثمار الأجنبي المباشر أن يقدم الدلائل التي تثبت صحة موقفه، بيد أن أحداً لا يستطيع إلا أن يربط النمو بضرورة تحقيق الاستثمار في الاقتصاد. ويجدر تحليل الحاجة إلى الاستثمار، والأجنبي على وجه الخصوص، في السياق التاريخي. لم تحصل البلدان النامية على الكثير من الاستثمار لأجل تحفيز الاقتصاد، وبالتالي النمو، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية بالنسبة لأوربا، ويتفق عملياً جميع المحللين على أن أغلب المؤسسات في البلدان النامية تحتاج إلى قدر كبير من الاستثمارات الجديدة، لكن رأسمال الاستثمار الحالي مفرط الندرة في هذه البيئة، وحيث عادة ما تكون قروض البنوك المحلية باهظة، أو يمكن الحصول عليها من خلال صلات العملاء فقط.
وفي هذا السياق يمكن أن يشكل الاستثمار الأجنبي مصدراً هاماً للرأسمال المتاح، وذلك بشرطين:
أولاً_ أن يجري استخدامه وفقاً لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا يحتّم أن يكون للدولة دور في تحديد اتجاهات توظيفه.
وثانياً_ عدم التقليل من قيمة أهمية اكتساب النفاذ إلى الأسواق العالمية.
إن جميع حالات (اللحاق بالركب) التي حققت نجاحاً في الظروف الراهنة قد اعتمدت على الصادرات لدفع هذه العملية.
من كل ذلك يمكن القول إن على البلدان النامية ألا تحجب أو تلغي الاستثمار الأجنبي المباشر، بل يجدر بها تشجيعه في اقتصاداتها، ولكن مع الأخذ بالحسبان ألا يكون مشروطاً، وأن يخضع لمتطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي في تلك البلدان، أي أن لا يكون بديلاً من سياسة التصنيع، وإنما يجب أن يخدم تشجيعه استراتيجياً كجزء من سياسة صناعية فعالة.