الأجـور…والطـلب تردّي أوضاع العمال والفئات الفقيرة
في سعيهم لإنعاش الاقتصاد الرأسمالي بعد الأزمة الكبرى عام ،1929 دعا بعض الاقتصاديين الأمريكيين إلى إعادة النظر بمفاهيم السوق الحر وتوازنه العفوي، وأصبح مبدأ توجيه الاقتصاد مقبولاً لديهم ما دام تدخّل الدولة سيعيد عجلة الاقتصاد برمته إلى الدوران، وسيُبقي على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وقوانين السوق. وهكذا بدأت إجراءات جديدة بمبادرة من الدولة، إنها سياسة (الأشغال الكبرى)، إذ عمدت الولايات المتحدة وأوربا إلى إطـلاق مشاريع عملاقة لا يؤدي العمل فيها إلى زيادة عرض منتجات إضافية في السوق تؤدي إلى زيادة العرض، كشق الطرقات وإقامة السدود والجسور، وكان الهدف إرسال كتلة نقدية إلى جيوب العمال، تؤدي إلى زيادة الطلب على السلع الضرورية لهؤلاء العمال، والتي تعاني من انخفاض الطلب بسبب تفشي البطالة وضعف القدرة الشرائية.
في البلدان النامية التي أعادت هيكلة اقتصاداتها وفق اقتصاد السوق، تنفيذاً لبرامج إعادة الهيكلة وفق اقتصاد السوق الحر (توافق واشنطن)، تراجع الهمّ الاجتماعي في خطط حكومات هذه البلدان إلى الدرجات الدنيا:
1ـ كان الهم الأول لتلك الحكومات زيادة الاستثمارات الخاصة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، لذلك لجأت إلى تشجيع المستثمرين بمنحهم مزايا وإعفاءات ضريبية، وتسهيلات إدارية وجمركية، واعتمدت لجذب المستثمرين انخفاض الأجور في تلك البلدان.
2ـ لم تظهر النقابات العمالية في هذه البلدان كتنظيمات مستقلة، بل ارتبطت بهذا الشكل أو ذاك بالأنظمة الحاكمة، ورغم دفاعها عن مصالح أعضائها بالطرق الإدارية (الجنتلمانية) فقد افتقدت سلاحاً أساسياً وهو سلاح الإضراب والاحتجاج كوسيلة لتحقيق مطالبها.
3ـ بعض هذه البلدان وضعت في الماضي أنظمة للعمل والضمان الاجتماعي تتناسب مع نهج الاقتصاد الموجه، وانخفاض حجم الاستثمارات الخاصة، لذلك عمدت بعد إعادة الهيكلة إلى تفكيك هذه الأنظمة، واستبدالها بأنظمة أخرى تتناسب مع اقتصاد السوق، وحرية سوق العمل، وتخفيض الأعباء على أرباب العمل والمستثمرين.
السياسات الاقتصادية المتأثرة بالليبرالية الاقتصادية الجديدة في سورية خلال العقد الماضي، لم تكن تعبّر – حسب اعتقادنا- عن رؤية اقتصاديةً بحتة، بل كانت نافذة حاولت الإمبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة النفاذ عبرها إلى تحقيق أغراض سياسية، وهذا ما يمكننا تلمّسه من مراجعة وصايا صندوق النقد والمصرف الدوليين، وخاصة ما تعلق منها بانسحاب الحكومة من الحياة الاقتصادية، ورفع الدعم الحكومي عن أسعار المواد الأساسية، وتشبيك الاقتصاد السوري بحزمة من الشراكات مع الاتحاد الأوربي ومنظمة التجارة العالمية قبل تمكين قطاعات الإنتاج العامة والخاصة الرئيسية في البلاد، في محاولة لتقليص سيطرة الدولة على القرار الاقتصادي ثم السياسي.
لقد أدت السياسات الاقتصادية خلال العقد المنصرم إلى اتساع الفجوة بين الأثرياء بجميع فئاتهم (من ملّاك عقاريين وأثرياء جدد وبعض الصناعيين الكبار، ووكلاء الشركات الأجنبية، وسماسرة الصفقات الكبرى)، والطبقة العاملة والفئات الكادحة الأخرى من المزارعين الصغار، والعاملين في الدولة، والعاملين بجهدهم الفكري، فازدادت أرباح الأثرياء وريوعهم، وتناقصت الأجور الحقيقية للكادحين، بسبب موجات الغلاء المتتالية على أسعار جميع السلع والخدمات. وتمشّياً مع طغيان قوانين السوق الحر، ومحاباة الفئات الثرية، انسلّت الدولة شيئاً فشيئاً خارج العملية الاقتصادية، وأوقفت تدخلها في تحديد الأسعار، كما تقلص الدور الرعائي للدولة تجاه الفئات الفقيرة، مما ساهم في بروز فئات ازداد ثراؤها من جهة، وفي اتساع بؤر الفقر وامتدادها نحو مناطق جديدة من جهة أخرى، فوصلت نسبة الفقراء فوق الخط الأعلى للفقر إلى نحو 41% من مجموع السكان. أما الجانب الآخر لسوء توزيع الدخل فهو انخفاض حصة الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي، إذ انخفضت مقدرةً بأسعار عام 2000 الثابتة من 45032% عام 1996 إلى 32,11% عام ،2004 ثم إلى 29% عام ،2008 بينما تصل في الدول الصناعية المتقدمة إلى56-70% وفي بعضها تتجاوز 80%.
في سورية ما يقارب خمسة ملايين عامل، أربعة ملايين منهم يعملون لدى القطاع الخاص بشقّيه النظامي وغير النظامي، وبلغ متوسط الأجور في هذا القطاع آنذاك نحو 13000 ليرة سورية، وحسب الإحصاءات الرسمية يتلقى عمال القطاع الخاص زيادات على أجورهم أقل بكثير من عمال القطاع العام، ونسبة كبيرة من هؤلاء العمال يعملون (تهريباً) أي دون إشراكهم في التأمينات الاجتماعية وإصابات العمل والضمان الصحي، إضافة
إلى ذلك تعرضت الطبقة العاملة وأصحاب الأجور المنخفضة من العمال الزراعيين والمتقاعدين في البلاد إلى ظرفين طارئين متتاليين تسببا في تراجع أوضاعهم المعيشية والاجتماعية:
الأول: ما أصاب اقتصادنا من مفاعيل الأزمة الاقتصادية العالمية في خريف ،2008 من ركود نتج عن الانفتاح المتسرع على الاقتصاد العالمي الذي تحركه الإمبريالية الأمريكية وشركاتها المتعددة الجنسية، والمؤسسات المالية الدولية المرتهنة لإرادتها، إذ أصابت منعكسات هذه الأزمة دول العالم بأسره، لكن أكثرها تأثراً كانت تلك التي اقتربت أكثر من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وطبقت برامج المؤسسات الدولية، فتراجعت الاستثمارات العربية والأجنبية والمحلية، وتقلصت صادرات البلاد، وانخفض عائد الثروة النفطية، وتوقفت العديد من المصانع العائدة للقطاع الخاص، مما أدى إلى تضاؤل فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة وتوسع دوائر الفقر. ورغم نفي بعض المسؤولين الاقتصاديين حينذاك خطورة هذه المنعكسات على الاقتصاد السوري، فإن الطبقة العاملة والفئات الفقيرة كانت أكثر حساسية منهم، فهي التي دفعت الثمن.
الثاني: تفجر أزمة سياسية واقتصادية داخلية، ساهم الخارج بقيادة الولايات المتحدة في تصعيدها وتحويلها إلى غزو إرهابي لسورية، ودخول الاقتصاد السوري نفق الركود بعد حزمة العقوبات الاقتصادية والحصار الجائر الذي فرضته قوى التحالف الأمريكي الأوربي التركي الخليجي على سورية، منذ بداية هذه الأزمة، مما أدى إلى فقدان عشرات ألوف العمال لوظائفهم، وارتفاع أسعار جميع المواد الأساسية، وحرق وتهديم العديد من المنشآت الصناعية الخاصة والعامة، وتعسّر استئناف التجارة الخارجية، الأمر الذي قاد إلى عجز الطبقة العاملة والفئات الفقيرة عن توفير مستلزماتها المعيشية.
إن المطالبة بتحسين أوضاع هذه الكتلة الرئيسية في المجتمع السوري لا تستهدف فقط زيادة القدرة الشرائية للفئات الاجتماعية المنتمية إليها، والتي تشكل غالبية الشعب السوري، بل تستهدف أيضاً تحفيز الطلب الداخلي على مختلف أنواع السلع، وإنعاش الأسواق خاصة في المرحلة الحالية، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق زيادة الأجور، واللجوء إلى تدخل فاعل للحكومة في عمق العملية الاقتصادية بهدف لجم الارتفاع المستمر لأسعار المواد الأساسية للمواطن عبر توفيرها بأسعار تناسب ضآلة أجور هذه الكتلة الشعبية، وخاصة المواد الغذائية والمازوت والغاز، هذه المواد التي يدفع المواطن للحصول عليها أسعاراً فرضتها ظروف الأزمة من جهة، وتلاعب أثرياء الحرب والفاسدين والسماسرة من جهة ثانية. ويمكننا تصور الوضع المعيشي المتردي للعمال السوريين ولباقي فئات الكادحين من خلال استعراض نتائج مسح دخل ونفقات الأسرة لعام ،2009 الذي أعدّه المكتب المركزي للإحصاء، إذ أشار إلى أن متوسط إنفاق الأسرة السورية شهرياً يبلغ نحو 30,9 ألف ليرة، في حين قدرت الدراسات شبه الرسمية هذه النفقات في عام 2017 بمبلغ يفوق 230 ألف ليرة سورية.
قد يظن البعض أن زيادة الأجور في المرحلة الحالية التي تعاني فيها موازنة الدولة عجزاً كبيراً هي ضرب من المستحيل، لكن تدبير نفقات هذه الزيادة ليس أمراً عسيراً إذا علمنا أن انعكاسها الإيجابي سيساهم في تنشيط الطلب على جميع السلع والمواد، ويساهم في تكوين عائد مقبول للصناعيين والحرفيين، يحفزهم على تجاوز مرحلة الركود. صحيح أن العامل السياسي يلعب الدور الأبرز في انكماش الاقتصاد السوري، وأن الحل السياسي لأزمتنا المركبة هو الوحيد القادر على إنهاض الاقتصاد السوري من جديد، لكن إعادة تحفيز القطاعات المنتجة بجرعات تزيد حجم الطلب ضرورية جداً رغم الظروف الاستثنائية، خاصة بعد النجاحات الهامة التي حققها الجيش السوري بتحريره مدينة حلب معقل الصناعة السورية من سيطرة الإرهابيين، واقترابه اليوم من تحرير الغوطة الشرقية التي تضم ألوف المصانع والمشاغل الكبيرة والصغيرة.
وبانتظار خطة حكومية لإعادة الإعمار بعد القضاء التام على الإرهابيين، واستعادة كل شبر من الأرض السورية، يبقى تشجيع الصناعة الوطنية في القطاعين العام والخاص بحزمة من الإجراءات التي تسهل عودتها إلى الإنتاج، وتحفيز الطلب عن طريق زيادة الأجور مطلبين ضروريين في الوقت الراهن.