الفساد في زمن العولمة «المتأمركة»

 كان لعولمة الفساد الدور الأهم في غزو الدول وتقويض نموها وتنميتها، ولإبراز شخصيات أغلبها غير منتمية لبلدانها أو لآلام مواطنيها. وفيما كانت آفة الفساد تقتصر في الماضي على دوائر بعينها في هذا البلد أو في ذلك الركن من خارطة العالم، فإنه مع تزايد المناداة بتطبيق برامج الإصلاحات الهيكلية، وسياسات الانفتاح الاقتصادي من جانب المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية)، والنشاط الذي يبذل من أجل تصعيد القدرة التنافسية للمنتجات، ومع تزايد حرية حركة تنقل الرساميل، ونشاط غسيل الأموال والجريمة المنظمة- اتسع الفساد إلى حد الاستشراء في جميع أنحاء العالم، وأصبح السمة المميزة الموجودة في الدول الغربية ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة، وكذلك في الأنظمة الديكتاتورية والشمولية المنتشرة في بلدان عالم الجنوب، ولدرجة أن دخل قاموس السياسة الدولية مصطلح (الفساد العولمي) أو (الفساد الكوكبي)، فالفساد طغى  بصورة كبيرة جداً في زمن العولمة وتقونن وأصبح ثقافة مقبولة من أغلب الشعوب، وانتشر بشكل كبير افقياً وعمودياً وأصبحت الكثير من ممارساته تمارس بكل دول العالم بعد أن كانت الكثير من الدول محصنة لأنواع كثيرة منه كتجارة الأعضاء والرقيق والآثار والإرهاب بكل أنواعه. فالعولمة اعتمدت على السياسات الليبرالية الجديدة، وألغت الحواجز والحدود أمام حركات تنقل السلع والرساميل، وتحولت إلى حركة تاريخية مضادة اقتلعت الأفكار الاشتراكية والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية التي طغت طيلة القرن العشرين، وسحبت المكاسب التي حققها العمال والطبقة الوسطى، وانتهت بالتوقيع على اتفاقيات منظمة التجارة العالمية (الغات) التي تولت توقيع العقوبات على من لا يذعن لسياسة حرية التجارة.

ففي ظل توسع وانتشار قوانين العولمة مدعية الليبرالية، وما آلت إليه من حركية في الأسواق الحرة والأموال الأجنبية، وما صاحب ذلك من انعدام في الرقابة، ومنه الانحلال في القيم والأخلاق وانتشار للسلوكيات اللا معيارية، التي هدفها الوحيد هو الوصول إلى المادة والبحث عن الرفاهية، انتشرت ظاهرة الفساد عبر المجتمعات، واستفحلت من خلال نقل أفكار وقيم المنفعة إلى شعوب العالم قاطبة، لا سيما إلى دول الجنوب، بإخضاعها لتحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وهي على مظهرها المعروف تمثل رسملة العالم، أي أن العولمة عملية يراد منها نشر مبادئ النظام الرأسمالي وفرضها على عامة الأساليب الاقتصادية التي تتبعها المجتمعات الأخرى. وتمثل مؤسسات المالية والاقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية والشركات المتعددة الجنسيات مؤشرات العولمة وحقل تطبيقها، كما أن نظام الدولة القومية وانتشار منظمات وقوانين الحرية والديمقراطية مؤشر آخر لعصر العولمة هذا.

وكان لهذه العولمة آثار سلبية متعولمة يعاني العالم بأسره من ويلاتها، وسيزداد تأثيرها على العالم بمجمله، ومنها انتشار الجريمة المنظمة التي تأخذ طابع الإرهاب بكل أشكاله، والفساد الإداري المسرطن، وجرائم المخدرات، وأزمة المديونية وزيادة عدد الفقراء وأغلبهم تحت خط الفقر، وزيادة الانحلال الأخلاقي، وانهيار داخلي مبطن لأغلب الدول الوطنية وتقسيم المجتمع إلى طبقتين واضحتي المعالم تتباعد المسافات بينهما ويزداد الصراع حدة بين مصالح أصحاب الأموال ومصالح أغلب الفئات الاجتماعية. وفيما يرى البعض أن العولمة تمثل الرأسمالية الجديدة المنطوية حول عولمة الاقتصاد بوصفها (نظام اقتصاد السوق الحر)، فإنه مع نمو العولمة الليبرالية الجديدة، ازداد تركيز الثروة، وتعمق التفاوت واللا مساواة في توزيع الدخل بصورة فاضحة، واتسعت الفروق بين الفئات الاجتماعية والدول اتساعاً لا مثيل له، كما أن الآفات الاجتماعية عمت المحيط وبضمنها الفساد الاجتماعي.

ولما كان للفساد أثر تدميري تهشيمي للبنى ومعرقل للنمو والتنمية ولاستنزاف الموارد، فإن الإحاطة به لمواجهته واقتلاع جذوره هي أهم وسيلة لأي نمو أو تنمية، أو أي إعادة بناء وانطلاق للدول التي كان الفساد مدخلاً مهيئاً لاختراقها وتدميرها، بعد أن كانت السيرورة التاريخية للبناء تحصنه وتقلل من الأمراض القادرة على تهشيمه وتدميره، ولا يمكن تقويض الفساد أو اجتثاثه من دون فرض القانون وتنفيذه بقوة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الآلية من دون تحكم الحكومة بالإدارة الاقتصادية والاجتماعية طبعاً مع الاستثمار الصحيح لكل الموارد الأخرى بما يحقق البرامج الموضوعة، مع العلم أن هناك الكثير من يظن أنه بالفساد تزداد أرباحه ويتعاظم نفوذه، والعكس هو الصحيح، لأن الفساد سيف ذو حدين آنياً وقاطع لرأسمال مرتكبه لاحقاً، وكذلك هناك من يظن أن الفساد يدار بشكل يمنعه من تجاوز خطوط حمراء من الأمن والأمان، وكذلك هذا أكبر خطأ لأن الفساد مسبب لكل الموبقات، فهو مخفف للنمو والتنمية وهو طارد للاستثمار وهو مشجع للاحتكار وهو طارد للكفاءات ومبذر للثروات وهو قاتل لأي فكر تنموي تطويري، ولذلك فإن الإحاطة بالفساد تستدعي الاعتراف به وتشخيص حالاته ومعرفة الأسباب والأدوات المشجعة والمحفزة له لوضع العلاجات القادرة على تقويضه والنيل منه، ومن دون وجود أدوات رقابية ومحاسبية فاعلة لا يمكن أي مواجهة لهذا السرطان، وإنما إعطاؤه البيئة المشجعة على تكاثره وتقويته، وكذلك فإن التغلب على ثقافة الفساد التبريرية الانهزامية واجب على كل وطني حقيقي، وهذه تكون بتقوية المنظومات القيمية والأخلاقية عبر مؤسسات التنشئة المختلفة التعليمية الدينية الأسرية الإعلامية، وكذلك بتبني برنامج إصلاحي متكامل اقتصادي إداري اجتماعي وفق أهداف واضحة وبرامج محكمة هادفة ومتابعة ومراقبة مع محاسبة مستمرة، فلكل هدف أدواته الخاصة، وإن تغيير القبعات لا يوصل إلى الأهداف المنشودة، وإن انتصار عقلية الفساد هو هدر لأي جهود ودماء بذلت لحماية الأوطان التي كان الفساد مدخلاً للنيل منها ومسبباً لتطويل فترة التصدي لها.

العدد 1140 - 22/01/2025