وايتمان والجسد العشب
نادرة هي البلدان التي استأثرت باهتمام الكتاب والشعراء والفنانين كما هي الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية. الغالبية الساحقة من هؤلاء نظروا إلى هذا البلد من الجانب السلبي المحض والقلة هي التي امتدحته. ذلك أن الصورة التي قدمتها الولايات المتحدة عن نفسها لفترة طويلة كانت كافية لأن يصفها البعض بالطاعون الذي يفتك بأمعاء الشعوب، وباللص الذي يسرق ثرواتها وأحلامها بالخبز والحرية. في حين يصفها البعض بروما الحديثة وقائدة النظام في العالم الجديد الذي يحول العالم بأسره قطعاً متفاوتة الأحجام في حظيرة (السعادة) الأمريكية.
آخرون رأوا في الولايات المتحدة رمزاً لتجويف المعنى الإنساني، وتحويل البشر آلات جوفاء أو أحصنة لاهثة تركض بلا توقف خلف بريق الثروة ولمعان الذهب.
كانت نيويورك هي المدينة التي حظيت أكثر من سواها بسخط الأدباء والفنانين الذين رأوا فيها جبالاً صماء من الرخام والأسمنت وناطحات السحاب، و(مدينة بلا قلب) تطحن تحت سنابكها المعدنية الضخمة ملايين البشر الضعفاء وتحولهم نقوداً.
أما تمثال الحرية المنصوب عند مدخلها البحري فلم يكن سوى شاهد على المسافة الهائلة التي تفصل بين الحلم والواقع، أو بين الشعار والحقيقة. هكذا كانت صورة المدينة في مرآة الفن بدءاً من قصيدة (شاعر في نيويورك) لغارسيا لوركا، المكتوبة في أوائل الثلاثينيات وليس انتهاءً بقصيدة (قبر من أجل نيويورك) لأدونيس، المميزة والمكتوبة بعد ذلك التاريخ بأربعين عاماً. وبينهما وبعدهما بالطبع عشرات القصائد والمقالات والأبحاث والمسرحيات والروايات واللوحات التشكيلية التي تعكس قسوة المدينة وفراغ رخامها الموحش.
غير أن كل ذلك لم يكن سوى نصف الصورة، أو الجانب الفارغ من الكأس.ففي الجانب الآخر رأى البعض في الولايات المتحدة رمزاً للحلم الإنساني الذي لا يكف عن تجديد نفسه باستمرار. إنها مختبر الإرادات وملتقى المتفوقين والباحثين عن العظمة، في عالم يطأ ضعفاءه بالنعال. في تلك البلاد ليس من أهمية تذكر للتاريخ ولا التفانة تذكر إلى الوراء. ذلك أن المقدس الوحيد لا يوجد في الماضي بل في المستقبل. إذ لا شيء في الخلف سوى أنقاض السكان الأصليين والهياكل العظمية النخرة للهنود الحمر.كأن الولايات المتحدة في هذا المعنى قد بنيت على مفارقة غريبة أو التباس بدئي تتجاور فوق ساحته القيم وأضدادها، الجريمة والحلم، الحرية والاستعباد. في ظل هذه التناقضات المخيفة يستطيع أوكتافيو باث أن يعلن أن (كل الخلاّقين العظماء في حاجة إلى اكتشاف أمريكا جديدة من الأحلام). ويستطيع محمود درويش أن يصرخ في المقابل (أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا). وكل واحد من الاثنين مصيب من زاويته. ولعل أولى المفارقات وأكثرها غرابة أن يتأسس الحلم الأمريكي الأول فوق غابة من الجثث، وأن تكون لحظة نهوض الولايات المتحدة هي نفسها لحظة سقوط غرناطة.
هذا الجانب الأسود والوحشي من صورة الولايات المتحدة لم يمكِّن أحداً غير القلة النادرة من أن يرى الجانب الإنساني الآخر الذي يمثله الشعر، وعلى قمته والت وايتمان بامتياز. ففي نتاج وايتمان الشعري، وخاصة (أوراق العشب)، تتجلى الروح الأمريكية الأصيلة والبسيطة المحتجبة وراء أندية القمار في لاس فيغاس، أو أسهم البورصة المتقلبة في نيويورك، أو الوجوه الشمعية المطلية بالأصباغ في هوليوود. وقارئ وايتمان لا يملك سوى الحيرة والاندهاش أمام قوة اللغة وحميميتها وسحرها الطاغي من جهة، وأمام ذلك الاتحاد الكلي بالإنسان المطلق الذي يتعدى الطبقات والألوان والأجناس ليدخل في ما هو مشترك بين الكائنات كلها.والشاعر الذي يعرف أكثر من سواه أنه مدين بوجوده للهنود الحمر الذين قضوا فوق أرض معبدة بالآلهة والأرواح، ينتصر لهؤلاء جميعاً عبر بعث معتقداتهم وأطيافهم في صوره وتمثلاته، إذ لا فارق بين المرئي وغير المرئي، بين الحسي والمجرد وبين الأعشاب والنجوم.
(أومن بأن الصلصالة الرطبة ستكون عشاقاً أو مصابيح / وأن مختبر المختبرات هو لحم الرجل والمرأة / أومن بأن ورقة العشب ليست أقل حركة من النجوم.)
لا يميز والت وايتمان إذاً بين ما هو رفيع وما هو وضيع، ولا يطرد أحداً من فردوس العالم وأبوابه المفتوحة على الحب.إنه يدعو الجميع إلى مائدته، كما لو أنه مسيح العالم الجديد: (هاهي ذي المائدة مهيأة للجميع / هاهو ذا اللحم للجوع الطبيعي / المائدة للأشرار كما للأخيار / إنني أدعوهم جميعاً/ المرأة وصائد الإسفنج / اللص والعبد الغليظ الشفاه والمصاب بالمرض الجنسي).
(كل جسد عشب ) يقول أشعيا النبي.وأديم الأرض ليس إلا من هذه الأجساد بحسب أبي العلاء المعري.أما وايتمان فيضيف: (أوحد نفسي بالتراب لأنجم من العشب الذي أحب / فإن أردتني ثانية / فابحث عني تحت نعل حذائك). هل كان وايتمان قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً يتحدث بالأصالة عن نفسه، أم بالنيابة عن العالم أجمع؟ وهل كان يعلم أن النعل الأمريكي سيدوس فيما بعد شعوباً بأكملها باسم الحرية. وقبل كل ذلك سيدوس فوق جثة القصيدة الأجمل التي يصعب أن تجود بها أمريكا ثانية.