بِعُرْف الحكومة.. الشوندر السكري محصول غير استراتيجي!

يفتح موقف الحكومة من أسعار الشوندر السكري، أبواب النقاش، التي حاولت كل الحكومات المتعاقبة تأجيلها، وعدم الاقتراب منها، لأسباب سياسية بالدرجة الأولى. إذ حددت الحكومة، من منطلق دعم الفلاح، مبلغ 10 آلاف ليرة لشراء طن الشوندر السكري، وألزمت مؤسسة الأعلاف ببيعه إلى مربي الثروة الحيوانية بـ 7 آلاف ليرة، وذلك لتخفيف الخسائر التي تنجم عن تصنيع مؤسسة السكر لهذا المحصول المصنف بالاستراتيجي، خاصة بعد رفع طن الفيول إلى نحو 105 آلاف ليرة منتصف نيسان الماضي، ما يعني أن عملية استيراد السكر تحقق الجدوى الاقتصادية مقارنة بتصنيع الشوندر. هذا القرار في حال مناقشته من جهة تخفيف الخسائر، وعدم تحميل الجهات العامة عبئاً غير قادرة عليه، يصبح قراراً صحيحاً، ومنطقياً. إلا أن اعتبار الشوندر السكري محصولاً استراتيجياً، أي حصوله على الدعم والتشجيع، يُبرز تساؤل: إلى متى الدفاع عن قضايا خاسرة؟

بادىء ذي بدء، لا نقبل المساس بحقوق الفلاح، أو تكبيده خسائر بسبب السياسات الزراعية المتبعة، ولايمكن الرضوخ لتوجهات اقتصادية ليبرالية، حكومية الطابع، تلحق الضرر بالقطاعات المنتجة، فهذه مبادىء ثابتة ومتفق عليها على ما نعتقد، ولا يحق لأي جهة ممارسة دور يناقض هذه المبادىء الوطنية. كانت الحكومة تعلم يقيناً، أنها لن تستلم محصول الشوندر السكري، المقدر بـ 29 ألف طن. فكل القرارات المتخذة في مجال رفع أسعار الطاقة، والاصرار على بقاء أسعار المنتجات الوطنية دون الكلفة الحقيقية، كان ينذر باتخاذ مواقف غير شعبية، وقرارات لا تدعم المنتجين الحقيقيين، وفي نهاية المطاف رفع الغطاء عنهم، والتخلي عن دعمهم الضروري استناداً لدورهم الرائد في تعزيز الأمن الغذائي. انتظرت الحكومة حتى اللحظات الأخيرة، وأعلنت موقفها (الأسبوع الماضي) من تحديد سعر الشوندر السكري، لكن على منفذي السياسات الزراعية، وصناعها، ومتخذي القرار، أن يخبرونا، كم هدرنا من المياه لريّ محصول الشوندر السكري؟ يستهلك إنتاج كيلو غرام واحد من الشوندر السكري 2.25 متراً مكعباً من المياه، فضلا عن تكلفة البذار ومستلزمات الزراعة الأخرى، وتقدر الجهات الحكومية كلفة إنتاج كيلو الشوندر بـ 10.5 ليرات سورية، وهذا ما يثير التساؤل إن كانت أسعار المياه الحقيقية تدخل في كلف الإنتاج؟ وهل يعد إنتاج الشوندر السكري مربحاً أم يحقق الخسارة استناداً لكميات المياه المهدورة في زراعة محصول شره للمياه؟ على وزارة الزراعة أن تجيب عن هذه التساؤلات، ومن ثم تتخذ الحكومة قرارها المثير للجدل، بتحديد سعر كيلو الشوندر بأقل بنصف ليرة من الكلفة التي وضعت على الورق، وليس الكلفة الحقيقية.

موقف الحكومة الأن من مزارعي الشوندر واضح جداً، ولايحتاج إلى توصيف جديد، ولا إلى دراسة أو إزالة الغموض عنه، وبموقفها هذا أغلقت الباب أمام هذه الشريحة من المزارعين، ودفعتهم بملء إرادتها إلى التخلي في السنوات القادمة عن زراعة هذا المحصول، وتجرأت على محصول استراتيجي بمعايير الثوابت الزراعية، إذ لم يعد من الممكن اعتبار الشوندر السكري محصولاً استراتيجياً، وعلى مزارعي هذا المحصول البحث عن بديل آخر، وعن محصول مختلف ترضى عنه الحكومة، ويدخل ضمن السياسات الاقتصادية الحالية. لا نعتقد أن الاقتصاد الوطني قادر على احتمال خسائر جديدة، بسبب سياسات متناقضة مع الواقع، ولا تتسق مع المعطيات الاقتصادية الراهنة، وما يؤخذ على هذه الحكومة أنها تتخذ القرار في غير التوقيت المناسب، وتجبر المتضررين من هذه القرارات على الانصياع لأوامرها. إذ إن فلاحي الشوندر السكري سيتعرضون لخسائر كبيرة، وكانت الحكومة على علم ودراية بذلك استناداً لموقفها من رفع أسعار حوامل الطاقة، فلماذا لم تنبه مزارعي الشوندر إلى أنها لن تُصنع إنتاجهم، بل ستدفع به علفاً للثروة الحيوانية؟ خاصة أن هذا المحصول لا يمكن لأحد أن يشتريه سوى مؤسسة السكر، وإمكانية تصديره معدومة، أي أن المزارعين يقفون الآن وبفضل الموقف الحكومي المثير للتساؤل، في دائرة طباشير محكمة، ومحبطة.

لاذنب لفلاح، يتحمل سوء تخطيط حكومي، أو فشلاً في وضع سياسات زراعية، لا تمت للواقع بصلة، ولا تأخذ بعين الاعتبار تحديات الزراعة، كما لا ذنب له في قرارات تحاول تخفيف العبء عن خزانة الدولة، بينما خسائره الفردية لا تقل خطورة عما مني به الاقتصاد الوطني من خسائر خلال الفترة الماضية، نتيجة الحرب الشعواء التي اندلعت دون أن تجد من يوقفها. الذنب الوحيد لفلاحنا المتمسك بأرضه، هو ثقته العمياء بأن الحكومة تقف دائماً إلى جانبه، ولن تتخلى عنه، وأنها تساعده في أحلك الظروف. وفي الحقيقة، تبدو حاجة الحكومة إلى الفلاح ومنتجاته أكثر من ماسة وبالغة، فموقف الفلاح بالاستمرار في الزراعة رغم الظروف القاسية التي يتعرض لها، وارتفاع حجم المخاطر التي تهدده كل لحظة، يحتاج إلى التقدير، ورفع القبعة، عبر تقديم سعر مجز وهامش ربح كبير لمنتجاته، لا أن تورطه الحكومة في زراعة صنف إنتاجي، ظل إلى ما قبل الأسبوع الماضي يعد محصولاً استراتيجياً، ومن ثم في اجتماع يُنتظر منه أن يفي الفلاح حقه، يعلن مجلس الوزراء تخليه عن هذا الفلاح، ويلغي من الأجندة الزراعية ما اصطلح على تسميته محصولاً استراتيجياً اسمه الشوندر السكري، إذ بات شوندراً بلا سكر.

العدد 1140 - 22/01/2025