آفاق المستقبل الاقتصادي للشركات متعددة الجنسية واقتصاد البلدان النامية

تشير تقارير الاستثمار العالمي إلى تزايد الانتشار العالمي للشركات متعددة الجنسية، وبينت نتائجها أن النمو الكبير والسريع في إجمالي مبيعات هذه الشركات كان استجابة للزيادة في حجم المبيعات الأجنبية، ذلك أن أكثر من 60% من عوائد هذه الشركات حسب هذه التقارير قد تولدت منها خلال السنوات الخمس الماضية، كما يتوقع أن تستمر الحالة ذاتها خلال السنوات القريبة المقبلة.

يرافق ذلك تزايد في حجم إنتاج الشركات متعددة الجنسية حالياً ومستقبلياً، إضافة إلى تزايد الاندماج ما بين الشركات لخلق شركات أخطر وأكثر تغلغلاً، مما سهل انتشارها دولياً من جراء إنشاء التحالفات الاستراتيجية فيما بينها مما يوسع قاعدة استثماراتها الخارجية.

تتجه أسبقية الاستثمار بالنسبة لهذه الشركات إلى آسيا وأمريكا اللاتينية، ثم يتبعه الاستثمار في وسط وشرق أوربا، ويرجع سبب توجه الاستثمار إلى تلك المناطق كونها توفر الأسواق المحلية، حيث يعطي مديرو هذه الشركات أهمية مضاعفة لما يعطونه لمعيار انخفاض كلفة العمل عند إصدار القرار بتوجيه الاستثمار. كماكان للتغيرات القانونية التي طرأت في تلك البلدان، المتمثلة بالخصخصة وتسهيل عملية دخول الأموال، إضافة إلى ارتفاع مستوى مهارة العمالة مقارنة مع بقية البلدان النامية، كل ذلك حفز الشركات متعددة الجنسية لاختيار تلك المناطق.

لا توجد محددات معينة تعيق توجه استثمارات الشركات متعددة الجنسية، فهي موجهة إلى جميع فروع الصناعة التحويلية، سواء كانت تتطلب تكنولوجيا عالية أو فروعاً خدمية، إذ تكون استجابة لتغير أنماط الطلب الكائنة في أسواق تلك المناطق، فتتوزع استثمارات الشركات ما بين إنشاء البنى الارتكازية أو في الخدمات المصرفية، كما تتغلغل في صناعة السيارات وخدمات الإعلام وغيرها.

كما تتوقع التقارير زيادة حجم الاستثمار للشركات متعددة الجنسية خلال السنوات الثلاث المقبلة، اي حتى أعوام 2018-2019 بمقدار أكثر من 25%، ويجري منذ وقت ليس بالقليل إعداد الساحة الدولية كي تتلاءم وتوسع نشاط الشركات متعددة الجنيسة. إن شروط البنك الدولي عند منحه القروض للبلدان النامية من حيث تنفيذ برامج التكيف الهيكلي، من تحرير للأسعار، وخصخصة، وفتح أسواق أمام الاستثمارات الأجنبية، والسعي لزيادة صادرات تلك البلدان، ما هي إلا أداة لزيادة الانتشار العالمي لهذه الشركات، وبالتالي زيادة تغلغلها في اقتصاديات البلدان النامية ومن ثم التحكم بها.

تميزت مسارات القروض الممنوحة من البنك الدولي في تحديد وجهة النشاط الاقتصادي التي يرغب البنك في تنشيطه أو الحد منه، والمثال على ذلك، أن القروض المقدمة إلى قطاعات البنى الارتكازية تسهل جهود الشركات متعددة الجنسية لاستغلال الموارد الطبيعية في تلك البلدان، ولقد كان حظ البلدان النامية التي تمنح تسهيلات للاستثمار الأجنبي المباشر أوفر في الحصول على قروض البنك.

كما ساهم صندوق النقد الدولي في تعزيز دور الشركات متعددة الجنسية، فبسعيه لمعالجة عجز موازين مدفوعات البلدان، يوصي باستمرار بمقترحات تهدف إلى ضرورة زيادة الصادرات وتقليص الواردات لتحقيق الوفر في العملة الصعبة. وبسبب ضعف قدرة البلدان النامية في مجال التصنيع الدولي فإنها تضطر إلى فتح المجال أمام الشركات متعددة الجنسية لتنشئ حلقاتها الإنتاجية فيها.

تسعى منظمة التجارة العالمية إلى تحرير التجارة بين دول العالم وإزالة جميع القيود والشرط التي من شأنها الحد من هذه التجربة. إلا أن واقع الحال يبرز تفوق الدول المتقدمة بشكل لا نظير له على البلدان النامية وفي جميع المجالات.

وبالتالي فإن فتح الأسواق لن يقود إلا إلى اكتساح الشركات متعددة الجنسية لأسواق البلدان النامية والقضاء على المؤسسات المحلية، لعدم قدرتها على الصمود أمام المنافسة، وكذلك عدم قدرة الدولة على توفير الحماية لها بسبب بنود اتفاقية منظمة التجارة العالمية.

وعليه، فإن أدوات النظام الاقتصادي العالمي من بنك وصندوق دوليين، ومنظمة تجارة عالمية قد سخرت لتعظيم وتسهيل تغلغل وانتشار الشركات متعددة الجنسية عالمياً، وكيف لا، فلا بد لها من ذلك، فهي قلب العولمة ومحركها، حتى أن البعض يرى أن عالم الغد، أي الاقتصاد المستقبلي سوف يحتوي على عدة شركات كبيرة تعمل على مستوى عالمي، وفيها من التشابه أكثر مما فيها من الاختلاف بصرف النظر عن تركيبة أسهمها، وهذا يعني الانتقال من الشركات متعددة الجنسية إلى الشركات العالمية ما فوق متعددة الجنسية (الشركات بلا جنسية أو بلا قومية). (1).

يواجه هذا الاتجاه اتجاه مواز لانصهار الشركات الصغيرة ونشوء شركات كبيرة تتعامل بمليارات الدولارات، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن حجم انصهار الشركات الصغيرة في الكبيرة يتزايد بنسبة 15% سنوياً (2).

لقد تبنت الدول الصناعية السبع الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، سياسة متابعة الشركات متعددة الجنسية في اتجاه خلق سوق واحدة وإطلاق العملية الاقتصادية الدولية عبر الحدود، والهدف من ذلك إنشاء استراتيجية جديدة لاستيعاب العولمة والاستفادة من عناصرها. إنها استراتيجية تحرير الأسواق الوطنية أو دمجها في السوق الواحدة. إن هذا الاندماج هو الذي يسمح في نظر الدول الصناعية باستغلال الإمكانات التقنية المتاحة أحسن استغلال، وهو الذي يزيد من الإنتاج ويحسّن الإنتاجية العالمية، كما يساهم في اطراد النمو وتزايد حجم التجارة العالمية، كما ترى أنه هو الذي يفتح للبلدان الفقيرة فرصة الحصول على الاستثمارات والرساميل التي ستساعد في المستقبل.

وبذلك تضمن الدول الصناعية تقاسم السوق العالمية الجديدة فيما بينها والحصول على أكثر ما يمكن من المنافع في السوق الموحدة. لقد أظهرت تجربة البلدان النامية أن اقتصادياتها الضعيفة لا تستطيع أن تحقق الاندماج في السوق العالمية، من دون التهديد بإمكانية انهيار اقتصادها أو أن ينقرض تحت ضغط الشركات الكبرى القادرة على المنافسة.

وهكذا ارتبطت بعملية العولمة عملية لا تقل عالمية عنها، هي توحيد استراتيجيات دول العالم جميعاً في إطار استراتيجية واحدة هي استراتيجية التصحيح الهيكلي والتخصص وإعادة الارتباط بالسوق العالمية.

إن مجابهة خطر الشركات متعددة الجنسية يعني مجابهة مخاطر العولمة كلها، ولا يتم ذلك إلا في بذل جهود واسعة لتحقيق تنمية شاملة ومستمرة على نطاق البلدان النامية. ولا يمكن لهذه التنمية أن تتم إلا بالاعتماد على الموارد الوطنية بصورة رئيسة، وتنمية هذه الموارد بصفة مستمرة، والنظر إلى أي موارد أجنبية على أنها مكمّل، أو إضافة إلى الموارد التي يجري تعبئتها داخلياً بما يتيح لهذه البلدان أكبر قدر ممكن من حرية الاختيار وكذلك القرار.

العدد 1140 - 22/01/2025