رابندرانات طاغور في روايته (البيت والعالم) صدى الألم الإنساني
قدم رابندرانات طاغور للتراث الإنساني أكثر من ألف قصيدة شعرية، و25 مسرحية والعديد من الروايات والقصص، إلا أن روايته (البيت والعالم) بقيت العمل الأكثر شهرة، وقد نشرت هذه الرواية مسلسلة في الصحف، ثم صدرت في كتاب عام 1916.
الرواية تطرح فيما تطرحه موضوع المرأة وإن كان بشكل بسيط، وهو أمر يسهل استدراكه بعد قراءة الرواية وربطها بالعنوان، فالعنوان الأصح كما تؤكد المترجمة هو (بين البيت والعالم) وهو باعتقادي العنوان الأصح، لأن انتقال المرأة في البيت من (أندر محل)، وهو عبارة عن الأقسام الداخلية من البيت في الهند التي كانت بشكل أساسي مكان إقامة النساء وحيث كان محرماً عليهن أن يجلسن خارجه وهو يشابه ما يسمى بالعربية (حرملك)- إلى قاعة الاستقبال حيث يمكن فيها أن تتحرك بحرية وتلتقي بالناس بعيداً عن توافه نساء الحي، هو جزء مهم من حرية المرأة في ذلك الوقت وفي بلد مثل الهند. ففي هذه المسافة الصغيرة تنتقل المرأة مسافات على مستوى حريتها وشخصيتها وحياتها، هو ما ركز عليه طاغور في الرواية. الأمر الذي عرف عنه هو تلك الحساسية الجندرية. هذا في البعد القريب للمعنى الذي أراده طاغور، لكن للعنوان إسقاطات أخرى سنمر عليها لاحقاً.
تتوضح في النسق العام ثلاث شخصيات رئيسة ستشكل فيما تشكل أقطاباً لحب تتنازعه الشهوة والمصالح والإنسانية والصدق والخيانة، يشمل:
بيمالا زوجة المهراجا نيكهيليش، وهو أرستقراطي ذو ثقافة إنكليزية تتداخل مع آراء ليبرالية وإنسانية عالمية.
أما سانديت الرجل الثاني في حياة بيمالا فهو صديق نيكليهيش، مناضل وطني ناشط ولكن بشخصية وتوجهات مختلفة تماماً عن زوجها ذي الأخلاق العالية والتوجه الاستبطاني، فهو عدواني يعرف كيف يصل إلى ما يريد مهما كانت الوسيلة، ومع إحساسها برغبته في خلخلة حياتها ومحاولة استمالتها الجنسية تحت مسميات متنوعة. إلا أن تجسيده للشخصية الناشئة الطامحة إلى الوحدة والاستقلال التام هو ما فتنها حقيقة وشدها إليه. ولعب دوره في ذلك اعتباره أن (بيمالا كاملة الصفات كرمز للأمة -كأم ومعبودة، ولو كان ذلك موقفاً ظاهرياً لاستمالتها وشدها إليه).
بين هذه الشخصيات الثلاث تتشكل الرواية، إذ يقسم الكاتب الرواية إلى ما يشبه الأبواب، كل واحد معنون باسم واحد من الشخصيات الثلاث، فمرة بيمالا، ومرة نيكهيليش، وأخرى سانديت، عبر بوح ذاتي أشبه بكتابة مذكرات، لكنه يتعدى ذلك إلى أنه يتفاعل مع الحاضر، وينفتح على قضاياه التي تتسع لحظة بلحظة.
فكل واحد من هؤلاء يروي من زاويته حكاية هذا المثلث الغرامي، بحسب تعبير المترجمة من وجهة نظره الخاصة. وينسحب الأمر على القضايا المطروحة في ذلك الوقت والتي هي أفكار طاغور التي طرحها في أكثر من مجال كفكرة الأمة مثلاً، سواء كمفهوم نظري أم كممارسة كره للأجانب على سبيل المثال. وبهذه الطريقة يستطيع طاغور أن يختلق عملية تدوير للحكاية. هذا التدوير يكون قادراً وبشكل دقيق على الغوص عميقاً في الشخصية وفضح كل ما تخفيه وقول كل ما تتجنب قوله عبر هذا البوح الذاتوي، أو لنقل عبر هذا التداعي التراكمي.
وهكذا نستطيع ببساطة أن نقرأ أن نيلهيليش أراد من بيمالا أن تتجاوز عتبة نساء الحي، وأن تتحرك في قاعة الاستقبال، لتتمكن من الاجتماع بأصدقائه، وأن تهتم بقضايا أكبر من توافه الحياة المنزلية.رغم مقاومتها في البدء، وهي الخطوة الحقيقية للخروج من البيت باتجاه العالم.وهي خطوة لم تكن سهلة على بيمالا، رضخت لها فيما بعد عندما وجدت دافعها الشخصي وعبرت عنه برغبتها في لقاء سانديت بعد خطاباته الحماسية حول القضايا القومية المتقدة التي ألقاها على حشود الجماهير، إذ شعرت أنها ألهمت لاتخاذ الخطوة الجريئة في الجهاد الوطني.
افتتنت بيمالا بسانديت لأن موقفه القومي كان أكثر حماسة وإبهاراً وسحراً من موقف زوجها المسالم المعتدل. شاركت بيمالا في مناظرات ونقاشات في حفلات رسمية مع سانديت حول أجندتهم السياسية بعد استهانتها بنظم الأجنحة الداخلية للبيت وبواجباتها المنزلية الرتيبة، وبالتالي كسبت بجهدها ثقافة سياسية واجتماعية بانية لنفسها ركناً خاصاً في نطاق عالمها المنزلي والاجتماعي والسياسي. لكن الأمر أبعد من ذلك، فقد ساعدت شخصية بيمالا في تكوين أفكار مستقبلية، ومثل وقيم للأنوثة الهندية عامة، وأعطت استقلالية ذاتية لنساء ذلك العصر وطرحت فوق ذلك كله مفهوماً بديلاً للذكورة ومفهوماً جديداً لمنظومة القيم بكاملها كي تكون أكثر ملاءمة لمفهوم الرجولة الحقيقية.
لعل الأهم في رواية طاغور تلك التقنية المبتكرة في الروي التي جذبت الكثير من النقاد بدءاً من الناحية السيكيولوجية من حيث قدرتها على استخلاص الفردية العالية النبرة، وذلك بالمواجهة العنيفة المدمرة بين الإنسان وذاته وبين ماحوله. انتقالاً إلى الناحية الفنية من حيث ممارسة أشكال بارعة متنوعة من السرد بصيغة المتكلم بمعزل عن تشابك السرد لأبطال الرواية الثلاثة والذي يروي فيه الحدث الواحد من منظورين مختلفين.
وإذا كان البيت في العنوان قد ينحصر في العالم الداخلي، والمقصود به هنا أمران: البيت بأجزائه كغرف، والبيت الداخلي الذي هو النفس البشرية أي الداخل الذي هو أعماقنا. أما الخارج الذي يبدأ من الخروج من أندر محل أي السكن الداخلي للنساء إلى غرفة الاستقبال، حيث تستطيع المرأة أن تخطو الخطوات الأولى صوب تحقيق وجودها كامرأة وإنسانة إلى العالم الخارجي، حيث يقبع الفقراء والكادحون والمهمشون والمهددون بلقمة العيش. ونيكهيليش هو الذي يمتلك النظرة البعيدة التي يستطيع بها اكتشاف حياة الضيق والمعاناة التي يعيشها أولئك المعدمون، هي إلى حد بعيد مهددة باستغلال سانديت لأيديولوجيتها الوطنية التي يمارسها عليهم بطريقة حادة ومغلوطة. ومن جهة أخرى تجدر الإشارة إلى ذلك العالم الذي تم إفقاره وتشكله بأفكار أصولية متعصبة للطبقة الاجتماعية والطائفية، وبالخرافة وعدم التسامح الديني، وحتى بالتعصب للمنتجات المحلية ورفض البضائع المستوردة. وهي أمور يرفضها نيكهيليش ويطرحها بأسلوب وأفكار راقية.
وهنا يجب أن نشير إلى أن الرواية تنتقد محاولات حركة (السودايشي) -أي مقاطعة البضائع الأجنبية -التي اتخذت مظهراً وطنياً، ولكنها كانت ذات أهداف اقتصادية قصيرة المدى برؤى لا تستشرف الأهداف البعيدة تدوس فوق المعيشة الهزيلة للإنسان دون رحمة أو رادع أخلاقي، مستخدمة الطقوس الشعبية لاستخدام واستغلال التزلف للأمة، لكن مقاصدها النهائية هي تغطية أرباح القادة الذين يسحرون الشعب.
في (البيت والعالم) لم يتقصد طاغور الحكاية كرمز بأشخاصها، بل ما أراده حقيقة على حد تعبيره هو رجع الصدى للدموع والألم والفرح عبر الفعل ورد الفعل الإنساني داخل الإنسان وفيما حوله.