جورج حنين رائد الشعراء السورياليين العرب في كتاب

يعدّ الشاعر المصري – الفرنسي الراحل جورج حنين (1914 – 1973) المؤسس الأول للسوريالية المصرية على صعيديها الأدبي والفني، ورائد الشعراء السورياليين العرب، فهو الذي استقدم إلى الوطن العربي أفضل الأفكار التحررية في الفكر الغربي عام ،1934 أي بعد مرور اثنتي عشرة سنة على ولادتها الأولى في أوربا.

وفي دراسة نقدية، هي الثانية عن صاحب (المتنافر)، للكاتب والمترجم المصري بشير السباعي بعنوان (بلاء السديم  مختارات من أعمال كاتب سوريالي)، الصادرة عن (دار بيت الياسمين) في القاهرة، نجد أنفسنا أمام مشهديّة بانورامية تحيط بإنتاج هذا الشاعر الرائد، الذي وصفه أندريه مالرو ب (النموذج الأكثر ذكاء في القاهرة).

الدراسة الأولى وضعها الباحث والشاعر والروائي السريالي العراقي ساران ألكسندريان (1927 – 2009). وفي فصلها الأول نكتشف عوالم جورج حنين، الذي يعتقد أن هدف الشعر هو (جعل إنسان الغد صعباً حيال اللغة). أما فصلها الثاني فتضمن نماذج مميزة عن نتاج حنين الشعري. وفيه يقول ألكسندريان: (من الصعب التحدّث عن السوريالية في باريس من دون أن نجعل مكاناً فيها لجورج حنين (…) لقد كان (أمير المنفى) سطع وتوهّج في أعماله كلّها، تماماً كما توهّج جميع شعراء المرحلة السوريالية الذين قدموا من روسيا وإسبانيا وألمانيا، كذلك قدم هو من مصر تماماً كما قدم جورج شحادة من لبنان وجويس منصور من مصر أيضاً).

ضم عمل السباعي ترجمات لأبرز أعمال حنين الشعرية، والكتاب مناسبة مهمة للتذكير بدور حنين في الأدب العربي والعالمي. وبحسب المؤلف فإن هذا الكتاب يتيح للمرة الأولى باللغة العربية الكثير من النصوص والتأملات التي كتبها حنين عن الفن بوصفه أسلوب حياة، وعن الواقعية وموقع المثقف في المعركة.

ويقدم الكتاب رؤية بانورامية تسعى إلى الإحاطة بإنتاج حنين المتنوع والغزير، وتكمل جهوداً سابقة في هذا الاتجاه أنجزها الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي، والناقد المصري سمير غريب في كتابيه (السوريالية في مصر) و(راية الخيال). وقد ضم الكتاب مقالات ونصوصاً شعرية وترجمات أنجزها المفكر الراحل أنور كامل. وكانت قد نُشرت في مطبوعات على أزمنة متفرقة ولم تُجمع في كتاب، بينها نصوص نادرة حول تصورات حنين عن واقع العالم ما بين الحربين، وتأملاته في علاقة الشعر بالمستقبل، ونص فريد يعلق فيه على نصوص محيي الدين بن عربي. وفي دراسته هذه اعتمد السباعي على نص كتبه جان جاك لوتي المؤرخ الفرنسي للحركة السوريالية في مصر ومؤلف (مصر في زمن بونابرت).

 

سريالية ثورية..

ينحدر حنين من أسرة قبطية أرستقراطية، وقد قضى حياته بين باريس والقاهرة، وجاب معظم أقطار العالم، وكان يجيد أكثر من أربع لغات حية، على رأسها العربية والفرنسية. وقد نظم في شبابه أشعارًا سمتها التمرد، متأثرًا بالفرنسي أندريه بروتون (1896 – 1966)، وفي نثره وشعره سعى إلى تجذير الحرية مفهوماً مطلقاً في واقع مأزوم. وتشير نصوصه إلى موسوعية صاحبها، إلى جانب قدرته على التحرر من ثقل اللحظة السياسية التي كان على مسافة نقدية منها.

وقد كان صاحب (العتبة المحرمة) شاعراً وناقداً سوريالياً وعضواً في التجمع السوريالي الملتف حول بروتون منذ ،1936 وخرج منه عام 1948. وكان هذا التجمع يؤيد فكرة المنظر الماركسي ليون تروتسكي عن استقلال الفن عن مختلف أشكال الحكم. لكنّ  حنين لم يكن عضواً في أي تنظيم سياسي بحسب المؤلف.

يشير السباعي إلى أنّ صاحب (مسافر اليوم السابع) أدخل السوريالية إلى مصر عام 1934 عندما نشر كراسين، أولهما بحثٌ تنكر له بعنوان (تتمة ونهاية)، وثانيهما كراس لم يكن مؤهلاً بعد لأن يتنكر له، وعنوانه (التذكير بالقذارة). مواصلاً نشاطه عبر إلقاء عدد من المحاضرات، ومن بينها محاضرة عن موسيقا (الجاز)، وأخرى عن (لوتريامون). بعد ذلك بسنوات، حاول تقديم رؤية شاملة، فعرض أفكاره في محاضرة، نشرت بسرعة، وكان عنوانها (حصاد الحركة السوريالية (1937). وقد نشرت الجماعة الجديدة آنذاك بياناً تحت عنوان (يحيا الفنّ المنحط!). وهو عبارة عن احتجاج على الحظر الذي فرضه هتلر على فن التصوير الحديث، كما دعا البيان الفنانين الشبان إلى التعبير عن مزاجهم الشخصي والتمرد على المبادئ الموروثة الجاهزة.

بعد ذلك، أسس صاحب (لا مبررات الوجود) ما أطلق عليه (معرض الفنّ الحر)، ورعى مجلة أسبوعية اسمها دون كيشوت، صدر منها 12 عددًا فقط. كما أسهم في تأسيس (جماعة الفن والحرية) في كانون الثاني/ يناير ،1939 وشارك في إصدار ودعم مجلة (التطور) عام 1940. والتي يرى كثير من الكتّاب الجدد في مصر أنها بشرت بنموذج ملهم لفكرة الحداثة في مصر.

وقد واصل صاحب (الإشارة الأكثر غموضًا) عام 1937بعد خروجه من تجمّع السورياليين في العالم، طريقه بمفرده كما يشير مؤرخو أعماله، متجنباً كل تضخيم للمخيلة الشعرية. مشتغلاً على نصوصه عن طريق الحذف ويتقدم عبر الإلغاء. وقد بدا له أنّ هذا النهج في التصرف يسمح له بإضفاء قوة وحياة على صور أساسية، ومواقف وحالات تفك عقد الوجود. والحال أن عدداً من القصائد التي تضمنها الكتاب في مجموعة (المتنافر) (1949) وصفحات معينة في (العتبة المحرمة) تقدم أمثلة جيدة في هذا الصدد.

وبحسب السباعي، فإن حنين لم يحاول فرض تيمات جديدة. وإنما حاول إنعاش بيئة شعرية وإطلاق حرية شكل من أشكال التعبير ينبثق من التداعيات التلقائية والمحفوفة بالاحتمالات غير المتوقعة. لينكب بعد ذلك على المادة التي تكونت لينظر فيها نظرة تتميز بقدر كبير من الصرامة والقسوة، لا بهدف رفض الفوضى المقدسة التي احتفى بها الشاعر الفرنسي آرثر رامبو  (1854 – 1891)، بل بهدف إعادة هذه الفوضى إلى خطوطها الأساسية ولحظاتها الحاسمة.

يقول الروائي إدوار الخراط: (سوريالية جورج حنين في صيغتها المصرية كانت مقترنة أكثر بالثورة لا بالإحباط، عكس صورتها في فرنسا وأوربا، وذلك يطرح تصورًا جذريًا لدى هذه الجماعة لأنها استلهمت تراثًا خاصًا بها وحدها هو التراث الشعبي المصري..).

رحل صاحب (على مدى الإنسان) عن عالمنا في السابع عشر من تمّوز/ يوليو عام 1973 بعد صراع طويل مع مرض سرطان الرئة. وقد أعادت زوجته جثمانه إلى مصر، واهتمت بأن تنشر في القاهرة كتيباً بعنوان (تقديراً لجورج حنين( يعد آخر دفاتر الأدب التطبيقي من سلسلة (حصة الرمل) التي بدأها حنين بنفسه. وفي هذا الكتيب، يعترف الكاتب لورانس داريل صاحب (رباعية الإسكندرية)، مخاطباً زوجة الشاعر: (أتعاطف دائماً مع فكرتك بالقيام بنوع من التقدير الجماعي لذكرى جورج حنين، الكاتب الجيد، والرجل المرح، وفي آن معاً، أحد الأشخاص الأكثر أهمية في مصر الحديثة. من جهتي، لن أنساه أبداً، مع أني لم أعرفه عن كثب).

العدد 1140 - 22/01/2025