«خُطب الدكتاتور الموزونة».. بين الاحتفاء والرفض احتراماً لرغبة درويش
عن (دار راية للنشر) في مدينة حيفا بفلسطين المحتلة، وبالتعاون مع (مؤسسة محمود درويش) في قرية كفر ياسيف بالجليل، صدر حديثاً كتاب (خُطب الدكتاتور الموزونة) للشاعر الغائب الحاضر محمود درويش (13 آذار/ مارس 1941 – 9 آب / أغسطس 2008)، وهو أوّل الإصدارات المشتركة بين الدار ومؤسسة محمود درويش، ضمن مشروع نشر أعمال الشاعر الكبير الراحل، الذي كانت الدار والمؤسسة أعلنتا عن انطلاقه من حيفا.
في هذا الكتاب – الذي يصدر لأول مرّة في كتاب مستقل (في 80 صفحة من القطع المتوسط)، بعد 25 عاماً على كتابة الخُطب (الأناشيد)، وبعد خمسة أعوام على غياب شاعرنا جسدياً، سعى درويش إلى تحليل المنظومة القمعية للدكتاتورية وإعادتها إلى عناصرها الأولى بسخرية عميقة ومبدعة، مقدّماً (مانفيستو) شعريّاً حاداً ومتوهّجاً في هجاء التسلّط والقمع؛ انتصاراً لقيم الحياة والعدل والجمال.
(خُطب الدكتاتور الموزونة) مجموعة من النصوص، التي نشرها محمود درويش في مجلة (اليوم السابع) في باريس، في الفترة من آب/ أغسطس 1986 إلى حزيران/ يونيو ،1987 والتي أعلن بعد نشرها أنه لا يعدّها قصائد شعرية، لذلك لم يضمها إلى أيٍّ من مجموعاته الشعرية التي صدرت بعد نشرها.
ويرجّح كثير من النقاد أنه تخلى عنها لأسباب جمالية وحساسيات سياسية، وأنه رفض إدراجها ضمن مشروعه الشعري والنثري. رغم أنّ جهوداً بُذلت في حياة درويش، لإعادة نشرها في كتاب إلا أن الشاعر رفض ذلك، وهناك شهود على هذا الرفض، مثل الروائي المصري يوسف القعيد، الذي نشر شهادته بالوقائع.
ومما جاء في شهادة القعيد: (في آخر زيارة لمحمود درويش إلى القاهرة، دعته إلى لقاء على النيل الدكتورة فاطمة البودي صاحبة دار (العين). وكانت معنا شاعرة الإمارات الكبيرة ميسون صقر القاسمي. وقضينا ساعات نحاول إقناع محمود درويش بنشر هذه القصائد على شكل ديوان مستقل، فرفض. تمترس خلف رفضه باعتبار أنه لا يعدّ هذه الخُطب والأناشيد قصائد شعرية. وأنه كتبها في لحظة ما من عمره. واحترمنا رغبته سواء في حياته أو بعد رحيله، لكن الرجل لم يعترض يومئذ على نشرها في مجلة أو جريدة، أمَّا أن تكون ديواناً مستقلاً، فقد قال لا).
وقد سجل الناقد اللبناني عبده وازن احتجاجه على إصدار (الخطب) في كتاب، قائلاً: (كان محمود درويش على حقّ عندما تجاهل قصيدته الطويلة (خُطب الديكتاتور الموزونة) وراح ينكرها مؤثراً عدم التحدّث عنها. كان محمود على يقين أنّ قصيدته هذه المؤلفة من سبع قصائد أو سبعة خُطب بحسب عنوانها (الصحيح: ثمانية خُطب)، ليست بقصيدة، وأنها خلو من الشعر حتى وإن صيغت على طريقة الشعر التفعيلي المشبع بالقوافي المتنوّعة).
كذلك سجل الكثير من رفاق درويش وأصدقائه احتجاجهم على نشر هذا الكتاب، متسائلين: (هل يحق لأحد إصدار هذه الخُطب في كتاب على غير رغبة درويش، الذي رفض أكثر من عرض لدور نشر لنشرها في كتاب؟ وهل إن درويش – لوّ كان على قيد الحياة – كان سيقاضي دار النشر على موقفها هذا؟). و(مَن يحمي رغبات الأدباء بعد رحيلهم إلى عوالم لا يستطيعون منها إيصال أصواتهم واحتجاجاتهم؟).
المرّة الأولى التي نُشرت فيها الخُطب بعد رحيل صاحب (لاعب النرد)، كانت في مجلّة (أدب ونقد) المصرية، التي عمدت إلى نشر هذه العمل كاملاً في أيّار/ مايو ،1997 متيحة لقرائها فرصة الاطلاع عليه، رغماً عن إرادة صاحبه الذي سعى إلى إنكاره. لينشر بعد ذلك في مجلة (الكرمل الجديد) الفصلية الثقافية التي تصدر من رام الله، فلسطين المحتلة، ويرأس تحريرها حسن خضر، في العدد الأول الذي صدر في صيف 2011. خلال أحداث الربيع العربي، فاحتفت فيها أكثر من مطبوعة عربية في أكثر من بلد، ابتهاجاً بسقوط الحكام أنصاف الآلهة.
يقول القعيد: (خُطب الديكتاتور الموزونة) نُشرت قبل ربع قرن من الزمان. لكنها تبدو – مصر هنا والآن – معاصرةً لنا تماماً، بل إن بعض الحكام العرب الذين أشار إليهم الشاعر سنة 1986 في نصوصه تلك، القليل منهم لا يزال على قيد الحياة، والكثير أخذه الربيع العربي، وبعض من جاؤوا بعد الربيع العربي ويحاولون البقاء والاستمرار، فيهم الكثير من الملامح التي حددها محمود درويش سنة 1986).
كما رأى مدير (دار راية للنشر) الشاعر بشير شلش أنّ: (القيمة الأدبية للنصوص كامنة فيها وستبقى، فإذا كانت النصوص التي كُتبت قبل ثلاثة عقود لا تزال راهنة حتى اليوم، فإنها ستظل كذلك في المستقبل، ومردّ هذا الأمر إلى أن الشاعر شخّص بدقّة آفات الأنظمة القمعية العربية ورسم صورة كاريكاتورية دقيقة تماماً لذهنية الطاغية. وهي ذهنية لا تزال قائمة حتى في الدول التي كانت فيها التحركات الجماهيرية أقرب لمفهوم الثورة – كما تعرّفها العلوم السياسية والاجتماعية- في مصر وتونس تحديداً).
فيما يعلق الأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب على هذه الخُطب/ النصوص النثرية، قائلاً: (كأنها نبوءة الشاعر إذ يحدس بالنهايات ويسخر من جبروت الدكتاتور القائم، رغم بطشه وسده للأفق واغتياله للمستقبل).
يضيف الحروب: (على الرغم من أن هذه النصوص نشرت قبل خمسة وعشرين عاماً، وكما يلاحظ حسن خضر بحق، (فإنها تبدو معاصرة تماماً، كما أن بعض الحكام الذين ألمح إليهم في تلك النصوص لا يزالون على قيد الحياة)… عندما نقرأ اليوم (النصوص) لن نحتاج إلى خيال مجنح كي نرى انطباقها على حالة حاكم هنا، وحاكم هناك. في (خطاب الجلوس) يعلن الدكتاتور على الملأ ما يلي: (سأختار شعبي، سأختار أفراد شعبي، سأختاركم واحداً واحداً، من سلالة أمي ومن مذهبي، سأختاركم كي تكونوا جديرين بي،…، سأختار شعباً محباً، وصلباً، وعذباً، سأختار أصلحكم للبقاء، وأنجحكم في الدعاء لطول جلوسي..).