شهرزاد تسترد عرش الحكي
حين بدأت المرأة الكتابة…انتقلت من زمن الحكي إلى زمن الكتابة، وعبر هذا الدرب مضت شهرزاد لتسترد عرشها.. عرش الحكي وتسترد هويتها المسلوبة. بعد أن استطاع الرجل أن يستثمر كل المعطى الحضاري الإنساني ويستجمعه تحت إرادته عبر جهود غير عادية، امتدت على طول التاريخ ليثمر ذلك عن ترتيب للبيت الإنساني.. ترتيباً هرمياً يتربع هو على عرشه، إلى أن أصبحت الحضارة بحد ذاتها رجلاً. وهكذا بدأت عمليات التهميش والإقصاء تفرز أدواراً وتميز أعراقاً وأجناساً، انتهت في النتيجة إلى نشوء مركزية حضارية ذكورية.
ولعل أهم هذه المستخلصات الثقافية السرد، إذ إنه الجانب الأنثوي الوحيد في الخطاب اللغوي. فالأصل أن الحكاية أنثى تنتجها المرأة وتعيش بها، إلا أن الرجل سلب ذلك كله عبر أزمنة متلاحقة، فمد يده وابتكر (فن الرواية) ليتحول الحكي من الروي والشفاهية الفطرية إلى التدوين والكتابة، ليصبح إثر ذلك المنتج الكتابي ذكورياً بامتياز وبخصوصية علامته المسجلة. فجاء (المؤلف) و(الكتاب)، وجاء العنوان وحقوق الفرد وحقوق النسب، والنسب هنا مشروط بالأب وموسوم بالسلالة المذكرة.. المذكرة فقط.هكذا صارت الرواية رجلاً (وهي في الأصل حكي منتم إلى الكائن الفطري..كائن جماعي وإنساني) بحسب د.عبد الله الغذامي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثمة عمليتين تمخضت إثرهما الرواية فناً ذكورياً منقاداً لشروط الذكورة فقط.الأولى خطف الحكي وتحويله إلى جنس كتابي خاص بالرجل، وكأنه من أملاكه الخاصة، والثانية هي تدجين المعنى وحبسه في حظيرة اللفظ. وهذه الحادثة لعبت فيها الفلسفة دورها، إذ جاءت، أي الفلسفة ومعها علم البلاغة والمنطق، لتخطف المعنى وتسجنه وتدخله سجن اللفظ الكبير.وعلى خلفية ذلك كله جرى تدجين المرأة وتدريبها لكي تقبل بكل ذلك، وظلت معزولة وغائبة عن السرد بوصفه أمراً ذكورياً وخاصاً بالرجل. ذلك لأنها في إطار الأمية بقيت بعيدة عن القراءة مثل بعدها عن الكتابة بوصفهما شأنين ذكوريين. والمشكلة أن المرأة حين بدأت تقرأ لم تتعلم أن تقرأ بصفتها أنثى، وإنما صارت تقرأ بعيون ذكورية كما أكدت الباحثة كولوني.
على خلفية ذلك كله قررت المرأة الكتابة، وبدأت الرحلة، تسللت إلى العراء لتمنح الحرف روحها وجسدها.ملأتها الكتابة لذة لا تضاهى، لذة مارستها بألم عميق. فهي كانت تكتب بدمها وعن صرخاتها المكتومة، تستجدي الكلمات بأنفاس لاهثة لتفك عنها قيود العزلة والإقصاء والتهميش؛ لذا جاءت كتاباتها مختلفة عما يكتبه الرجل، لأنها تحكي الجرح والألم،وتحكي في ذات الوقت ذاتها الممزقة وترسم هويتها بيديها وتوجد خصوصيتها المسحوقة. وإن لم تخرج تلك الكتابات في البداية عن هموم الذات ولم تتجاوز المشاكل الخاصة المرتبطة بحميميتها، لذلك اتهمت كتابات المرأة في البدايات بمحدودية الخيال الإبداعي وهو مصطلح ارتبط بكتابة المرأة للدلالة على عدم نضج هذه الكتابة،وعدم انفتاحها على آفاق واسعة، ولكن رغم كل ذلك كانت تلك المرحلة من مراحل الكتابة ضرورية لمرحلة تاريخية تمردت فيها المرأة على كسر طوق صمتها.
الأكيد في الأمر هنا أن رحلة الكتابة رحلة شاقة، ولكنها أكثر شقاءً بالنسبة للمرأة، لأنها تدفع الثمن مضاعفاً، فهي تدفع ثمن الأنوثة وثمن الكتابة في مجتمع ما زالت تحكمه قيم ذكورية تمارس حجرها وإقصاءها على المرأة.
لكن ما بلغته المرأة اليوم يؤكد أنه لا شيء يقف أمام إرادة الإنسان، ذلك أن روح المبدع عند المرأة هي ذاتها عند الرجل، تلك الروح التي تصر على المثابرة فتلتزم وتصر أن يكون الإبداع هو قضية حياتها وهاجسها الدائم، وبالتالي يصير قضية وجود والتزام نحو ذاتها والحياة.
وإذا راقبنا التطور الكمي والنوعي على مستوى كتابة المرأة فسنلاحظ ببساطة أنه لم تعد هناك تلك الكتابة الذاتية التي لا تعبر سوى عن صوت المرأة ومعاناتها في المجتمع الذكوري، بل انفتحت كتاباتها على الحياة بمجملها وعلى القضايا الكبرى التي تشغل بالها كإنسان يعي حقيقة وجوده أولاً، وحقيقة وجود الآخر ثانياً، فأبرزت وعياً متجدداً بثقافتها المحلية والإنسانية، وصاغت كتابة أكثر نضجاً، وبلورت رؤى أكثر إحساساً بواقعها، وأبدت طريقتها المميزة في تذوق العالم.
وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه: كيف تناول النقاد، أو لنقل كيف واكب النقاد، هذه الكتابات النسائية؟
وهل استطاع الناقد أن ينظر إلى تلك النصوص الملتحمة مع الحياة والناس إلى حد بعيد بحياد دون أن ينزاح إلى ثنائية الذكر / الأنثى من موقع أنا الذكر وهي الأنثى؟!
ما أعتقده أن الناقد في تقييمه للعمل الإبداعي الموقع بقلم نسائي عمل وكأنه في غرفة عمليات، فبدأ يشرح النص كما لو أنه يشرح الجسد، وخاصة أن الجسد أنثوي، فلا يتوانى عن قطع الأنسجة الحية. ولو أنه اختار أدواته بدقة وموضوعية بعيداً عن إرث الفحولة لديه،لاستطاع الإنصات بدقة وبإمعان إلى النص الذي بين يديه بغض النظر عن جنس كاتبه.
لكن المرأة بوعيها الجديد ونضجها الثقافي الذي تبلور من واقع التناقضات العربية الحالية، استطاعت وعلى قدم المساواة مع الرجل في الإبداع، أن تنتج نصاً إبداعياً لا يطمح فقط إلى نقل الواقع المعيش ومحاكاته، بل يكشف عن عوالم إبداعية، من حيث هي اشتغال على اللغة والتخييل، وأدركت عبر ذلك أن الإبداع أكثر رحابة من مجرد عالم من الموجودات التي تدخل في عالم اختصاصها.
وما شهدته الساحة العربية في السنوات الأخيرة من إنتاجات إبداعية يؤكد حضورها القوي، الذي زعزعت عبره مفاهيم الرجل حول ما تبدعه المرأة وحدود إبداعها. فكانت كتاباتها التي تنهل من التراكمات المعرفية لفهم العالم من حولها ومحاولة تغييره وفك رموزه وتفكيك ذاكرته الذكورية. وهي تبغي من ذلك رد الاعتبار إليها بوصفها إنساناً يحب الحياة ويشارك في البناء المجتمعي عن طريق الحوار مع الذات / ومع الآخر، وإبداع خطاب أدبي بأجناسه المتنوعة يحمل خصوصيتها ولمستها لتغيير المقولات المقيدة بالإرث بمقولات أخرى محررة تنتمي إلى الحداثة، وما بعد الحداثة، وهي والأمر كذلك تنتج بكل ثقة فكراً وخطاباً تواصلياً يزيح عنها الحجب ويوضح لها الرؤية.