ظاهرة ثقافية لا مثيل لها في المشهد الثقافي العربي

فجعت الأوساط الثقافية اللبنانية والعربية يوم الجمعة (25 الشهر الجاري) برحيل الصحافي والناقد العصاميّ والمثقف الشيوعي محمد دكروب (1929 – 2013) أحد أبرز أعلام الثقافة العربية، الملقب ب(سنديانة الأدب اللبناني) و(حارس الحزب الشيوعي اللبناني)، الذي نعاه وهو يحتفي بالعيد التاسع والثمانين لتأسيسه. معبراً في بيان النعي عن أسف (الحزب) لرحيل ابنه البار الذي أناط بنفسه أن يؤرخ لمسيرة الحزب تأريخاً ثقافياً وأدبياً وحكائياً، في كتابه (جذور السنديانة الحمراء).

وقد صار حزن الأصدقاء والشباب على موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) يوم شاع خبر رحيله، حزنين، حزن على ماضي (السنديانة الحمراء الجميل)، الذي لم يعيشوه، وحزن على أحد آباء هذا الحزب.

ولعل أهم ما يسجل للرجل أنه ظلّ حتى رحيله قامة من قامات الفكر والنقد العربي التنويري، لها مكانتها الراسخة ودورها التي ظلت تؤديه من دون كلل. فرغم كل الإحباطات التي نعيشها في أرجاء وطننا العربي، ظلّ (دكروب) ممسكاً بالقيم الإنسانية النبيلة وناشداً الحرية والتنوير بطريقة جعلته منارة لجيلنا والأجيال اللاحقة.

ولعل أبرز ما يميّز مسيرة الراحل، إلى جانب نشاطاته الثقافية، سيرته الذاتية التي رواها بطرق متفرقة في أكثر من مناسبة، وشخصيته التي كانت تدعو إلى التفاؤل والأمل بغد عربي أفضل.

منذ نعومة أظفاره زاول (دكروب) مهناً موسمية عديدة مثل: مزارع، فبائع خبز، فبائع ترمس وياسمين في المقاهي، إلى حامل حجارة باطون إلى معلم بناء، إلى أن امتهن تصليح (بوابير الكاز) (سمكري). غير أن عمله هذا لم يمنعه من الاهتمام بلغته العربية وتوسيع دائرة معارفه، ومحاولة كتابة قصص بأسماء مستعارة، فبدأت منذ أواخر الأربعينيات، علاقته مع الكلمة والكتابة.

ومع بداية الخمسينيات، تعرّف إلى القياديين الشيوعيين فرج الله الحلو وحسين مروة، والتحق بالتيار الماركسي، فكلفه الشيوعيون -آنذاك- بتحرير (الثقافة الوطنية)، مجلة ثقافية سياسية صدرت بين الأعوام 1952 و،1959 أسبوعية أولاً، ثم شهرية فكرية أدبية، شكلت محوراً في زمنها للشيوعيين.

ويسجل للراحل في الذاكرة الثقافية العربية أنه أول من حاور محمود درويش في حوار صحفي ثقافي مهم، نشر عام ،1968 وفي عام 2008 – بعد رحيل درويش – كتب (دكروب) في مقالة بعنوان (بين شعر القضية وقضية الشعر)، ذكرياته عن ذلك الحوار الذي يعدّ اليوم وثيقة ثقافية وأدبية وشعرية وإنسانية هامة، تضاف إلى رصيدهما. وفي المقالة يكشف لنا (دكروب) أن صديقه محمود درويش (كان يرجو – كما قال لي منذ أربعين عاماً – أن يكون امتداداً نحيلاً لأمثال ناظم حكمت ولوركا وأراغون، فصار واحداً من كبار شعراء العالم، يضيء، بملامح شعره الفلسطينية وعمقها، دنيا الشعر في هذا العالم الواسع).

رحيل (سنديانة الأدب اللبناني) ترك أثراً عظيماً في نفوس المثقفين العرب ووجدانهم، وتغطية لهذا الحدث الجلل اتصلت (النور) بعدد من الكتاب والنقاد العرب لتسجل شهاداتهم في حق رجل قضى العمر قابضاً على جمر الثقافة والإبداع.

 

البياري: دكروب.. المثقف الجميل

بداية حديثنا كانت مع الكاتب الفلسطيني معن البياري، الذي قال: (محمد دكروب يليق وصفه بالمثقف النبيل، العصاميّ الزاهد، المنقطع لفكره، وصاحب الدأب البديع على قيم العدل والحق والجمال. ناقد أَدبي من طرازٍ يُؤاخي بين جماليات الفن وقيمه. أَن تقرأ دكروب يعني أَن تتعلم حذاقة غير حاضرة عند كثيرين غيره، ممن سلكوا اليسار نهجاً، وممن اختاروا النقد الأدبي المنحاز إلى الاشتراكية، ذلك أنه، أولاً وتالياً، مع الإبداع، وأولاً وتالياً أيضاً، مع التعبير عن آلام الفقراء والكادحين والبسطاء وطموحاتهم وهواجسهم. أظن أننا، في اللحظة الراهنة، في حاجة ملحة لموروث هذا الكاتب الطليعي، والنادر، لنصغي من جديد إِلى البديع الكثير لديه، حيث مقاومة التسلط والاحتلال والبشاعة والقهر، وحيث الحب والأناة والمشترك الإنساني الخالص. وأظننا في حاجة إِلى إِعادة الاعتبار لنتاجه الثقافي والنقدي والفكري، بعدما جدَّفنا كثيراً في الخصومة مع الشيوعية والاشتراكية واليسار، لأن دكروب لم يتعامل مع هذه القناعات كأوثان، بل أوعيةً ومضامين إنسانية للدفاع عن الأمة والأوطان، وللتصدّي لكل تبعيةٍ من أَي صنف، ولمواجهة كل كسلٍ وهزيمةٍ وانتكاسة.. رحم الله المعلم الناصع، الذي أَعتز أَنني التقيته في أُسبوعٍ استضيف فيه في عمان قبل 18 عاماً. للأسف، لم يتكرر اللقاء، غير أَن شحنات ومقابسات من فكره وعلمه وخلقه بقيت أتابعها، في (الطريق) وغيرها من مساهماته الرائقة. له الرحمة).

د. إدريس: (دكروب باقٍ ولم يمت)..

وباتصالنا مع الناشر والكاتب اللبناني الدكتور سماح إدريس (مدير دار الآداب)، قال ل (النور) عن الفقيد ومكانته في المشهد الثقافي اللبناني – العربي: (محمد دكروب قد لا يتكرر. أو لنقل إنه سيصْعب كثيراً أن يتكرر. دكروب سنكري (سمكري)، بنى ثقافته على يد الشيخ الجليل الشهيد حسين مروة ومجلة (الثقافة الوطنية)، وصار وريث الثقافة الرفيعة مع أنه لم يتجاوز درجة (السرتيفيكا) في المدرسة. ومع ذلك فقد حافظ على روحية السنكري المتواضع الفقير. الثقافة لم تجعله متعالياً على أحد، بل وظّف كلّ حرف تعلّمه في خدمة الشعب والمقاومة والتغيير. دكروب لم يستغل الثقافة لأيّ غرض شخصي أو عائلي، كما يفعل آلاف (المثقفين) العرب. لقد وُلد فقيراً وعاش فقيراً ومات فقيراً، لكنّه أغنانا جميعناً بأعماله وكدحه وعقله. صفة أخرى قد لا تتكرر بعد دكروب: صفة الشخصية غير الصداميّة رغم جذريّتها.  وهذا ما جعله نقطةَ توافقٍ وإجماعٍ والتقاء بين التيارات الفكرية والسياسية الوطنية بلا استثناء. كلّنا نتحدث عن (الديمقراطية) غير أن أكثرنا لا يمارسها. أمّا دكروب فقد كان ديمقراطياً بالفعل والممارسة اليومية. لقد ترك لنا دكروب إرثاً حافلاً بالجميل والمفيد، ولاسيما عبر ترؤسه لتحرير مجلة (الطريق). ومن واجبنا، ومن واجب حزبه الشيوعي بشكل خاص، أن نُبقي على هذا التراث عبر أرشفته وترقيمه، وأن نواصل  كلٌّ في مجاله المهني الفكري  عمل دكروب. فلا مقاومة بلا نقد فكري، ولا مقاومة بلا ثقافة تغييرية. وتلك هي الطريق الوحيدة لأن نقول بصوت عالٍ لا تلعثم فيه: محمد دكروب باقٍ ولم يمت!).

 

السامرائي: اسمه اقترن ب»الطريق«

وقال الناقد والكاتب العراقي ماجد السامرائي ل (النور): (حين التقيته مصادفة قبل نحو ثلاث سنوات على طاولة مقهى في أحد فضاءات شارع الحمرا ببيروت، لم يداخلني أي إحساس بأنه بدأ خطوته الأولى على درب الثمانين.. إذ ذكّرني برأي كنتُ كتبته في أحد كتبه، وأنه كتب يرد على ما كنت كتبتُ، وكان، كما قال، قد ردً عليّ الصاع صاعين.. وكان، كعادته، تملأ وجهه ابتسامة مودة!

عرفتُ محمد دكروب، أول ما تعرفتُ إليه، أوائل السبعينات من القرن الماضي.. في بغداد، ومنها ذهبنا إلى البصرة، أيام كان يأتي ضيفاً على (مهرجان المربد الشعري).. وكنتُ أجد ما يهمه من ذلك اللقاء الثقافي الحيوي هو أن يُعرّف برفيقة دربه، مجلة (الطريق)، التي اقترن اسمه بها واقترنت باسمه، في ما جعل لها من حضور جديد.. فكان في حركة تواصل مع ضيوف المهرجان وقد جاؤوا من كل أرض في الأرض العربية، ف (يكسب) منهم من يكسب كاتباً فيها، أو قارئاً متواصلاً معها.. وقد اغتنم فرصة هذا اللقاء، بالحضور الثقافي المكثف فيه، ليخرج بغير ملف عن قضية تشغله ثقافياً وفكرياً، كان مما نشرته المجلة في سنواتها تلك.

ويوم توقفت (الطريق)، لم أرَ محمد دكروب إلا مرة، أو مرتين.. ولا أذكر في أي عاصمة عربية.. وقد وجدته على شيء من الانكسار، هو انكسار من فقد (علامته) على الطريق الصعب، وقد حفّتْ بهذه الطريق غير إخفاقة فاقمت هذا الشعور والإحساس عنده…

أما في لقائي الأخير معه، وإن كان سريعاً وعابراً، فقد رأيته بما رأيته فيه: يهشّ للحياة في داخله وقد عادت ب (الطريق) إلى ما كان يُحب ويرغب، وهي التي أتاحت له أوسع فضاء تواصل مع الناس…

لكنّ (الطريق) التي جمعته بحلمه هذا كان لها في هذه المرة أن تنكسر به حياة.. فيغيب.. وتغيب (الطريق) مع غيابه..).

 

الراحل في سطور …

ولد دكروب عام 1929 في مدينة صور، تلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة الجعفرية لمدة سنتين، اضطر بعد ذلك إلى ترك المدرسة لمساعدة والده وإعالة العائلة.

كان الراحل عصامياً، فحصّل ثقافته بنفسه، وارتبط اسمه بصحافة (سنديانته الحمراء): (الثقافة الوطنية) و(الطريق)، كما عمل في مجلة (الأخبار) الأسبوعية، وصحيفة (النداء) اليومية. وعُرف ناقداً أدبياً أيام ازدهار النقد الأدبي في الربع ما قبل الأخير من القرن العشرين. حتى أيامه الأخيرة ظل دكروب في (طريقه) قائلاً: (مادامت الطريق بخير، أنا بخير).

وللراحل مؤلفات عدة من بينها: (الشارع الطويل) -1954) و(دراسات في الإسلام) الذي أنجزه بالاشتراك مع حسين مروة ومحمود أمين العالم وسمير سعد ،1980 و(شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة) -،1981 و(النظريّة والممارسة في فكر مهدي عامل)، بالاشتراك مع آخرين- ،1989 و(حوار مع فكر حسين مروة) بالاشتراك مع آخرين- ،1990 و(خمسة رواد يحاورون العصر) دراسات- ،1992 و(وجوه لا تموت في الثقافة العربية الحديثة) -،1999 و(على هامش سيرة طه حسين) 2009. إضافة إلى مؤلفات وأبحاث أخرى نشرت في كبريات الصحف والمجلات اللبنانية والعربية.

العدد 1140 - 22/01/2025