مانديلا… أيقونة الحرية

 

بسمرته الباذخة كثافة أرض جنوب إفريقيا، بما تراكم في طبقاتها من قهر، وألم وأمل، لترسم ملامحها، ولتكون على هيئتها، تلفحها الشموس لتختزنها شرارة كامنة، وبهدوئه الذي يشبه صمت غاباتها، كان نلسون مانديلا أسطورية حيّة عاشت لتروي ويروى عنها، أسطورة لا تبدأُ من ملهاة المستعمر الأبيض وتفوقه، ولا تنتهي بمأساة المعذبين في الأرض، الذين لم يُروا سوى أشياء فائضة، لا شأن لمن استغلها بحواسهم، حينما تئن تحت نير الاسترقاق حدّ القتل، ما شَكّل في وعي المشاكس العنيد (ماديبا) أو نلسون مانديلا، تراكماً نوعياً أخذ تجلياته على أفق صيرورة وعي وتاريخ وانحيازٍ للشرط الإنساني، فجميع البشر فيه متساوون كقوس قزح الله. هكذا راحت صورة جنوب إفريقيا التي استهلكت حيوات شعبها آثامُ نظام الفصل العنصري ولحظاته الحرجة في التاريخ الإنساني المعاصر.

لنضالات نلسون مانديلا وصور كفاحه خصوصية وعالمية، من الصدام إلى الحوار إلى المواجهة فالاعتقال المتصل المنفصل، الذي سيصبح علامة فارقة في مسيرته الطويلة، لا بعدد السنين، بل لأنه خرج من الأسر أقوى مما اعتقد أعداؤه وهو يردد على الملأ: (الإنسان الحر كلما صعد جبلاً، تراءت له جبال أخرى ليصعدها). وفي مراسم تنصيبه رئيساً لجمهورية جنوب إفريقيا قال مانديلا بما يشبه تعويذةً مستحبة: (لا أقف الآن بينكم كنبيّ، بل كخادم متواضع، لأضع ما تبقى من سنوات عمري في خدمتكم).

لكن مانديلا المناضل العالمي أدرك ببصيرته الثاقبة أن حرية جنوب إفريقيا تبقى منقوصة ما لم تتحرر فلسطين، فالعدو هو ذاته، لقد رأى فلسطين قضيته، فتماهى مع تراجيديتها منسجماً مع مثله العليا التي تقول إن الشعوب الحرة هي في أوطانٍ حرة، لطالما كانت فلسطين، لباعث روح إفريقيا ورمز أمتها، هاجساً كونياً كرس مواقف جذرية من أولئك الذين كرسوا نظام الفصل العنصري البائد في ماضي إفريقيا، أو في الصورة الأخرى لآخر استعمار في العالم هو الكيان الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين التاريخية. فمأثرة مانديلا هي مأثرة ملهم للكفاح ضد القهر والتمييز واستشراف آفاق الحرية بما استبقاه في الوعي الجمعي العالمي والذاكرة الإنسانية، هي ثقافةٌ صاغت نسيجه مقاوماً فريداً، ثقافة عابرة للحدود وللجغرافيا الضيقة وللأزمان، لأن قطب رحاها هو الإنسان، بجمالية اكتمال شرطه الإنساني، ثقافة تتصل بمن يتوقون اليوم إلى أن يجدوا مكاناً تحت شمس الإنسانية التي لا تغرب عن العالم كقدرٍ إنساني وضرورة تاريخية. ولعل مانديلا كان قبساً نبيلاً منها وظلاً أرضياً من ظلالها المضيئة، ورسالة سلام ألهمت الأبجدية، لتتأمل مفرداتها في ضوء آلام وآمال المعذبين والمقهورين في غير بقعة من العالم.

مضى نلسون مانديلا على خطا غيفارا وأكمل رسالة المهاتما غاندي ولوثر وتشافيز وعبد القادر الجزائري وعز الدين القسام وعبد الكريم الخطابي وعمر المختار، مكللاً بالأوسمة الوطنية والعالمية.

لم يسقط نلسون مانديلا، بل سقطت إلى الأبد حقبة ظالمة لنظام التمييز العنصري، وذلك الذي خرج من السجن أعظم بكثير، ولج الخلود، وأبقى في الذاكرة الإنسانية حقاً: (إن الجبناء يموتون مرات عدة، لكن الشجاع يموت مرة واحدة)!

العدد 1140 - 22/01/2025