جدل الأنا والآخر

لا ترتهن العملية النقدية للأحداث والأزمات والمنعطفات الحادة، فهي فعل دائم، فكل فكرة أو رأي أو قرار، لا بد أن يعرض على مشرحة النقد، توخياً لتجنب الأخطار المحدقة بالأحكام النقدية بسبب التحيزات المسبقة التي تتشبع بها الذائقة مهما ادعت الحياد والموضوعية، فالنقد عملية ذاتية وموضوعية في وقت واحد.

الممارسة النقدية رياضة فكرية ذهنية مسؤولة، فمن لا يستطع وضع نفسه وأفكاره أمام امتحان النقد، فلا يحقّ له أن يتوجه به إلى الآخرين، مُطلِقاً سهامه عليهم. فالممارسة النقدية تستدعي نقداً مزدوجاً، عين على الذات وعين على الآخر.. بمعنى أن نجعل أفكارنا وذواتنا، بوصفها متشكلاً تاريخياً ومعرفياً، موضوعاً للنقد، مع الاعتراف بأن الذات الإنسانية (الشخصية) تقوم على أساس التناقض واختلاف المكونات التي تجد في رحم ذواتنا بنية خصبة للتعايش والصراع، مشكّلة حالة من الانسجام والتوافق، مع الاستعداد الدائم لقبول المتغيرات داخل الشخصية وخارجها. والسؤال: لماذا نقبل الاختلاف والتناقض داخل الشخصية الواحدة، ونرفضه ونحاصره ونصادره في المجتمع؟! أوليس المجتمع عبارة عن محصلة تفاعل الذوات الإنسانية المشكلة له؟ ولماذا نصرّ على صراع المتناقضات ونعطل مبدأ الوحدة الذي هو أساسها، تلك الوحدة التي تبنى على المشترك الإنساني، ودوائر الاتصالات ونقاط التقاطع.

مما لا شك فيه أن الإنسان، عندما يعيد النظر ببنيته الذاتية ومكوناتها، بالتمحيص والنقد، يتوخى تجاوز نواقصها وتصحيح ضعفها، وصولاً بها إلى التفاعل والتكامل المنشود. لا يقصد الهدم والإلغاء والتحطيم والتجريح، فلو مارسنا رياضة النقد بهذا المعنى على الآخرين، وبالطريقة نفسها وللغايات والأهداف ذاتها، التي نتوخاها لأنفسنا، لتكوّنت لدينا أرضية من التسامح والتعاطف مع الآخرين ومع أفكارهم، وكأنها أفكارنا ومعتقداتنا، وبذلك نضع أساساً راسخاً ومتيناً من النقد الرحيم المنصف، الذي يؤهل نفوسنا لولادة طبيعة ثانية تنمو وتزدهر بمقدار تعاطفنا مع المختلف الذي هو في المعيار الأخير تجلٍّ للأنا، كما أن الأنا ليست إلا تمظهراً للآخر فينا، فتغيّر فكرة أو رأي أو موقف وتبدُّله سيؤدي بفعل التراكم الكمي إلى تحول نوعي في بنية الشخصية الإنسانية، وبالتالي في طريقة تفكيرها.

إعادة النظر في المسلمات وما استقر من أفكار ورؤى، والابتعاد عن تأبيد القناعات، وتحريرها من المطلقات القارّة، مع القناعة الراسخة بأن كل فكرة قابلة للتطور والتبدل والانزياح، وفق قانون (الثوابت في سياق المتغيرات)، تساعد الفكر على التحرر وتمهّد له تقبّل الجديد، وتجعل منه أرضاً طيبة لتعايش المختلف والمغاير، وصولاً إلى ممارسة الحياة على أرضية (شعرية الاختلاف).

عملية النقد المستدام تحرّر الشخصية الإنسانية من وهم امتلاك الحقيقة، وتبعد الذات الإنسانية عن مرض تضخم (الأنا)، والمبالغة في موقعها وفاعليتها، التي لا يمكن أن توجد بمعزل عن حالة التفاعل مع الآخرين، والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم، والموقف من الأفكار والآراء والمعتقدات المغايرة، ليس، ولا ينبغي أن يكون، موقفاً من الأشخاص الذين يحملونها.

جدل ثلاثية النقد: المزدوج، المستدام، الرحيم، وتخصيبها الخلاق في وحدة الشخصية الإنسانية، وتفاعلها المنتج بمجابهة المماثلة بالتفرّد، والواحد بالمتعدد، والانغلاق بالانفتاح، يبني شخصية ناقدة متّزنة ومتوازنة، لا تشعر بالدونية والانسحاق أمام الآخر، كما أنها، في الوقت نفسه، لا تؤدي إلى الاستعلاء وتضخم الأنا، المفضي إلى التقليل من أهمية تجارب الآخرين والهجوم على منجزاتهم، بقصد إقصائها وتهميشها، فالذي لا يبتهج ويفرح لإنجاز الآخرين، يكون فرحه وابتهاجه بإنجازاته منقوصاً.

العدد 1140 - 22/01/2025