البياض.. وأشياء أخرى

(صديقي) نسخة طبق الأصل، بل نسخة مزيدة ومنقعة عن (حاتم زهران) الشخصية المحورية في فيلم (زمن حاتم زهران) (..؟) معمّد بالنفط والغاز والورق الأخضر والأقنعة..

مغرم بالعطور الباريسية، والأحذية الإيطالية، والنساء المخمليات، والغرف المدهشة، وأشياء أخرى يحمر منها الوجه الشرقي.

إيقاعيّ الصوت، عالي النبرة، سريع الحركة، بطيء الخطوة، مجلل بلياقة الأدب، وطافح برومانسية (ألفرد دي موسيه) وفق (البرصة).

معجب حتى الجنون بناطحات السحاب والسعوب، وبتمثال (الحرية) النشوان اللعوب.

وبالتزامن مع هذا وذاك عاشق ولهان بالعولمة والديمقراطية الصحراوية البدوية الموصولة بديمقراطية  الأفّاك الجديد المعاصر الأعرج (تيمورلنك) خادم الغرب والموت الأمين.

(صديقي) هذا جِدّ حائر، وجد مائس، يقلب صفحات التاريخ، القديم منه والحديث والراهن، ويلوذ بفرويد وآدلر ويونغ وأتباعهم ومريديهم وبجميع مدارس التحليل النفسي وانتصاراته المذهلة، ويستنفر كل الغرف السرية والكهنة والسحرة والمفكرين والمنظرين والمفسرين غرباً وشرقاً وبألوان الطيف، لعله يجد تفسيراً مقنعاً، وحلاً مرضياً لمعضلته:

(السمور حيوان بري صغير لاحم يألف الأحراج والغابات، ويتسلق الأشجار، ذو فراء أبيض، شديد البياض، وإذا أراد الصيادون صيده، من أجل فرائه الثمين، يستخدمون هذه الحيلة: يلاحقون المسالك التي يعتاد المرور بها، ويضعون فيها الطين، ثم يأخذون في مطاردته، وحين يصل السمور إلى المكان الذي وسخه الطين يتوقف دفعة واحدة، ويفضل أن يُصطاد، ويُقتل، على أن يمر في الطين، ويوسخ بياض فرائه، لأنه يفضل البياض على الحرية وعلى الحياة..؟!).

أيها (الصديق) المعمّد، (الزهراني)، المجلل والعاشق الولهان..!

الحل لا يحتاج إلى كل هذا العناء الذي يوصل إلى العياء، الحل يكمن في أن العيش بسيط جداً، والحياة سهلة جداً، جداً، لولا الكرامة الشخصية والفكرية والأخلاقية والوطنية والقومية، لولا كرامة الإنسان والقيم الأزلية والبياض؟!

جاء في المعاجم اللغوية الكثير عن الأبيض والبياض، وهذا بعضه: البياض من الألوان ضد السواد، والأبيض ضد الأسود، والأبيض من الرجال: النقي العرض الكريم الأخلاق، والخيط الأبيض يكنى به عن بياض الفجر، والأبيض من الكلام: المشروح الواضح، والبيضاء  مؤنث الأبيض: الشمس، والحنطة، واليد البيضاء: النعمة العظيمة التي لا يشوبها منّ ولا أذى، والليالي البيض هي التي يطلع فيها القمر من أولها إلى آخرها، وعددها ثلاث: الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة، وسميت هذه الليالي بالبيض لاستنارتها جميعها بالقمر…

 

(2)

لا أدري كيف صار للطبيعة ناموسها الخاص؟ فكان الشتاء، ثم الربيع، ثم الصيف، فالخريف، ولكنني أعرف أن لكل فصل من فصولها وقتاً في مسيل الزمن، وأن لكل فصل رائحته ولونه وشكله وطعمه ونكهته ومذاقه الفريد وسماته المتميزة وتفصيلاته المثيرة، كذلك هي حياة الإنسان، ولعل الفارق الأهم بينهما هو أن الطبيعة قابلة للتجدد والاستمرار، وزمنها مفتوح وبلا حدود.

وأنت، أيها العدو اللدود الذي يتخذ هيئة صديق ودود، أما زلت تسألني وتلح في السؤال: كيف السبيل إلى السلامة وراحة البال ورغد العيش والنوم العميق؟

 ببساطة متناهية: كن مسطح الرأس بلا صوت، ولا رأي، ولا قضية، ولا مبدأ..

وكنْ بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مذاق..

كنْ (…)، وكنْ بلا عطر ولا قيثارة.

 

(3)

في مسرحية (يوليوس قيصر) يخاطب القيصر ذراعه الضاربة وجليسه المختار (أنطونيوس) قائلاً: دع من الرجال من هم خالو البال يتحلقون حولي، من هم مسطحو الرؤوس، وينامون في الليل جيداً.

أما (كاسيوس) هناك، فله نظرة باردة صارمة، إنه يفكر أكثر مما ينبغي، إنه يقرأ كثيراً، ولا يحب اللعب، إنه لا يسمع الموسيقا مثلك يا أنطونيوس، ويضحك نادراً، مثل هؤلاء ا لناس لا يملكون هدوءاً أبداً، إنهم خطرون (…)؟!

أن تكون مثقفاً حسب (غرامشي) يعني أن ترفض العمل للعمل ليس غير.

أن ترفض الكتابة  في تجلياتها المختلفة  لمجرد الكتابة والمنفعة فحسب، أن تجمع بين الكلمة والسياسة والشأن العام، بين القلم النظيف والكفاح لتحرير وطنك المغتصب والمحتل، والوصول بأمتك إلى الحياة الحرة الكريمة.

أن تكون شاعراً أو كاتباً، أو مفكراً، أو مثقفاً مناضلاً في وحدة عضوية لا انفصام فيها..

أن تفكر (أكثر مما ينبغي) أن تكون (كاسيوس) العربي.. وألا تكون مداحاً وطبالاً ومسبحاً بحمد الأقوياء والمهيمنين، أن يكون ناموسك (تحيا الحياة فوق الأرض، لا تحت الطغاة.. تحيا الحياة)!

أن تقف بحزم وشجاعة وقناعة ضد التعصب والتطرف والإرهاب في مختلف الميادين وعلى جميع المستويات، وضد المذهبية والطائفية والفئوية، وتعلن: الدين لله، والوطن للجميع!

أن تعمل من أجل عالم أكثر نقاء وجمالاً وإنسانية وعدلاً، وأن تحلم بخبز غير ممزوج بالدموع، وبغدٍ (لا ترفع فيه آيات الحب إلى من لا تحب)..

أن تناهض تلك المخلوقات الوحشية التي تعتاش على امتصاص الدماء، أن تناصر ذلك (النداء الحار الذي وجّهه (مكتشف روحي إلى مكتشف جغرافي)، أي: نداء (ماياكوفسكي) المفترض إلى (كولومبس) بإغلاق (الجغرافية الملعونة) أمريكا، بغية تنظيفها..؟!).

أن تكون على هذه الصورة يعني من وجهة نظر الإمبريالية والصهيونية والأنظمة الاستبدادية، والإقصائية، الشمولية، ويعني من منظار القوى الظلامية، والفكر الخارج من الكهوف والمقابر الجماعية، أنك دخلت دائرة المحظورات والمحرّمات، وأصبحت (خطراً) ولا بد من التصدي لك، ومن ثم القضاء عليك بهذه الطريقة أو تلك، بأي ثمن، وبأي وسيلة..).

العدد 1140 - 22/01/2025