أنا موظف.. إذاً أنا موجود!

 كرسي وطاولة من المعدن، وطقم رسمي باهت، نظارات طبية ووجه شاحب، تلك الصورة التي بقيت إلى أمد قريب ملتصقة بالموظف الحكومي الذي يصارع إدارته البيروقراطية ولقمة عيشه حتى يصبح في سن التقاعد.

الأمر مرتبط بما سمي بـ(الدور الأبوي للدولة)، مصطلح أرسته الدولة الراعية، الدولة المالكة لكل شيء، البشر والحجر والشجر وكل ما يدب على الأرض، الدولة الشمولية باختصار.

نما المفهوم وترسخ مع التجارب الاشتراكية، حيث كان المواطن يدرس مجاناً، وما إن يتخرج في جامعته أو معهده حتى يجد وظيفته الحكومية ومسكنه بانتظاره، وكانت تلك ميزة للاشتراكية، إذ كانت البطالة معدومة (استعيض عنها بالبطالة المقنعة طبعاً)، أضف إلى ذلك موضوع تأمين السكن الذي يؤرق الشباب المقبلين على بناء أسرة، وكانت الرواتب الشحيحة تكفي الأسر لتعيش حياة مقبولة، وعلى قول المثل: من رضي عاش.

لكن مع النسخ (العالمثالثية) للاشتراكية بدأت البثور والدمامل تطفو على وجه التجربة في ظلّ نظام لا هو اشتراكي ولا رأسمالي، بل هو (اشترارأسمالي)- كما أسماه احد الكتاب السوريين مرة، فقد أخذ من النظام الاشتراكي شمولية الدولة ومنع التعددية السياسية ومنع أي نشاط أهلي أو نقابي، وأخذ من النظام الرأسمالي مظاهره السلبية كالبطالة وانعدام تكافؤ الفرص، وأنشأ طبقة خاصة بأهل الحكم وأقاربهم وأبناء عشائرهم، يحتكرون النشاط الاقتصادي الخاص، فيما بقي العمل في القطاع العام أيضاً حكراً عليهم، ومع تأزم الأوضاع الاقتصادية في تلك البلدان (الاشترارأسمالية) أصبحت الوظيفة الحكومية حلماً للشباب والشابات يحتاج إلى استغلال معرفة فلان المتنفذ أو دفع مبالغ طائلة للمرتشين من أصحاب النفوذ.

ولأن التجربة السورية في الحكم منذ عام 1963 تدخل ضمن هذا التصنيف، فقد انحصر حلم الشباب والشابات في الظفر بالوظيفة الحكومية، إلاّ من رحم ربك من أبناء العائلات الميسورة التي بنت شركات عائلية استمرت وتوسعت في مرحلة ما قبل اندلاع الأزمة الكارثية عام ،2011 ويستثنى منهم أيضاً أبناء كبار المتنفذين الذين أصبحوا رجال أعمال على حين غرة بفضل الكسب غير المشروع لـ (بابا) خلال سنوات (نضاله) المديد، ودخلوا في شراكات مع النوع الأول، فيما بقي سواد الشعب محكوماً بقانون العاملين الموحد الذي ينظم العلاقة بين رب العمل (الدولة) والعامل، والباقون ينتظرون دورهم في الحصول على وظيفة حكومية وما بدلوا تبديلا.

لا بد من القول إن سنوات الألفية الثالثة السابقة للأزمة الكارثة قد شهدت نهوضاً للقطاع الخاص وتوسعاً له ممّا خلق فرص عمل مقبولة وإن لم ترقَ للطموح، وبقيت عقلية الشركة العائلية مسيطرة على النشاط الخاص إلى حدّ كبير.

الآن وقد طحنت الحرب طموحات السوريين وأحلامهم، وقضت على ما بنته أجيال على الصعيدين العام والخاص، لم يبقَ أمام الباحثين عن فرص عمل سوى العمل لدى الدولة، رب العمل الوحيد الذي يبقى مستمراً في العمل بكل الظروف.

وما زالت العقليات التي ورثها جيل من الشباب من آبائهم موجودة وقوية في الطموح إلى العمل في وظيفة حكومية رغم الدخل البائس الذي تؤمنه تلك الوظيفة، فبمقارنة تقريبية لمتوسط دخل الموظف تبدو اللوحة سوداء، فقبل الأزمة كان متوسط الراتب يعادل 300 دولار أمريكي لا تكفي للإيفاء بكل متطلبات المعيشة آنذاك، وكان الدولار بحدود 50 ليرة، وقد انخفض هذا الدخل الآن إلى ما يعادل 60 دولاراً فقط لا غير، فيما أصبح الدولار كالحسنة بعشرة أمثاله، أما أسعار السلع فبقيت معلقة بحبل وثيق بسعر الدولار بل إنها تجاوزته أحياناً.

الوظيفة الحكومية ما زالت ملاذاً لغالبية الناس بسبب وجود قوانين وإن كانت لا تخلو من مواد مجحفة تحكم علاقة العامل برب العمل، قوانين تؤمن للعامل التأمينات والضمان الصحي والإجازات وغيرها، فيما القطاع الخاص بقي يعمل بطريقة المهرب، فهو يخفي إيراداته وعدد عماله الحقيقي ولا يعترف بحقوقهم إلاّ في حالات نادرة ـ.

الأمر كان وما زال مرهوناً بوجود دولة مؤسسات أولاً، لا دولة تتشكل من تحالف البيروقراطية الحكومية مع البرجوازية المحلية التي لا تملك من تقاليد البرجوازية الأوربية شيئاً، تلك البرجوازية التي صنعت عصر الأنوار، وأطلقت الليبرالية السياسية.

الآن وقد بدأ الحديث عن إعادة الإعمار ودخول شركات عالمية كبرى كإجراء لا بدّ منه، إلى جانب الشركات العامة التي ترهلت جسما وروحاً، تبدو الاحتمالات مفتوحة للخروج من أسر الحلم بالوظيفة الحكومية، وربما تحتاج المسألة إلى جيلين أو أكثر حتى تصبح النظرة إلى العمل غير محصورة بالوظيفة الحكومية، وسننتظر.

العدد 1140 - 22/01/2025