المسرحي التركي باشكوت.. بين دفء الإبداع وجليد الاستبداد

ظل الأدباء على مر العصور ناقدين للسلطات واستبدادها وفسادها، وكان المسرح أقرب إلى عموم المفقرين والمهمشين والمقموعين، وأجرأ في انتقاد النفاق والظلم، وأكثر تأثيراً في التغيرات الاجتماعية، وكان دفء الإبداع أقدر على تذويب جليد السكونية والظلامية في الاستبداد.

وقد عانى أدباء تركيا المعاصرون من قسوة السلطات المتعاقبة، رغم التظاهر بمسحة العلمانية والديمقراطية تقليداً للجيران الأوربيين، وعمل مبدعو المسرح والشعر والرواية والقصة الساخرة وسيف ديوقليس مصلت فوق رؤوسهم، وحاصرتهم الرقابة والملاحقة، وتعرضوا للسجن والنفي، ومن هؤلاء ناظم حكمت ويلماز ويشار كمال وعزيز نيسين وجواد فهمي باشكوت.

ولد المسرحي التركي جواد باشكوت عام ،1905 وكتب مسرحيات اجتماعية عرّى بها فساد الإدارات وتشوهات المجتمع وسطوة الطبقة الحاكمة، وعمل في الصحافة قبل أن يتفرغ للمسرح، وألّف 23 مسرحية لاقت عروضها نجاحاً داخل تركيا وفي أوربا، من عناوينها:

 (المدينة الكبيرة) وقد عرضت لعام كامل في إسطنبول.

(المدينة الصغيرة) ومُنح عليها جائزة (لينو) الأدبية، (المتقاعد) و(المرآة) و(العطلة) التي عرضت في مدن أوربا، وحُوّلت إلى فيلم سينمائي، و(عندما يذوب الجليد).

ترجم هذه المسرحية جوزيف ناشف، وصدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام ،1979 المسرحية في ثلاثة فصول وستة عشرين مشهداً، والحكاية فيها تجمع التعرية والتمرد والطرافة والمفارقة والبساطة والبعد عن المباشرة.

قائمقام حالم في منطقة جليدية، قطعت طرقها بسبب تراكم الثلوج والجليد السميك، يصل فجأة إلى الدائرة، ويقرر تغيير الأوضاع المتردية في المنطقة، وبطلب من كاتب الرسائل (رئيس الديوان) إتلاف القرارات والملفات والأوراق المصنفة في خزائنه، ويعلن أنه سيباشر معالجة المشكلات دون أي معوقات بيروقراطية، ويعين عسكرياً سابقاً يلقب (الجا؟ويش المعتوه) مساعداً له، ويتفقد بنفسه أسواق المدينة، ويكشف ظواهر الفساد والغلاء والاحتكار، ويعاقب المسؤولين عنها.

ويساعد الفقراء، ومنهم خديجة الأم لأربعة أطفال، التي هاجر زوجها إلى مدينة إسطنبول وانقطعت أخباره، وانقطع مورد الأسرة التي عمل أفرادها في نقل المسافرين، لكن بناء جسر على النهر ترك عدداً من سكان المنطقة بلا عمل، وقد قامت خديجة بنسف الجسر، وقبض عليها واعترفت بفعلتها وشرحت أسبابها، فعفا عنا القائمقام، ومنحها قطعة أرض من أراضي الدولة التي استولى عليها أثرياء المنطقة، وكان القائمقام يكرر مقولته أن الأعمال واجبة الإنجاز قبل أن يذوب الجليد.

ويعمل فريق القائمقام بحماسة ويلاقي الاستحسان من الأكثرية المهمشة، لكن التجار الفاسدين وأصدقاء الوالي يدبرون له مكيدة للإيقاع به، ويسخرون المومس عفت لتنفيذ خطتهم، لكن أصدقاء القائممقام يحذرونه في الوقت المناسب، فتفشل الخطة وتنكشف خيوط اللعبة المسرحية في الفصل الثالث، إذ يذوب الجليد وتفتح الطرق ويصل القائمقام الجديد، ويفاجأ أن محاولة جدية لإصلاح أوضاع المنطقة قد نفذها قائممقام ومساعدوه، أبلغ عن فرارهم من مستشفى المجانين، ولأن أعمالهم وافقت مزاج الناس وأصلحت أحوالهم المتردية، فقد احتشد الأهالي لللتعبير عن حبهم للقائمقام الذي خدمهم حين عرفوا بوصول قائممقام جديد، ولكن الواقع أقوى من الحلم، ومن رغبات الحشود، فالقائممقام المعين تسلم مهمته بهدوء، وأعاد قائد الدرك القائممقام السابق وفريقه إلى مستشفى المجانين، وحين بكت خديجة حزناً على مصير المسؤول الذي أنجدها حاول القائممقام تهدئتها، وروى لها طرفة تنسيها حزنها: أن مجنوناً في المستشفى سأله أحد المارة خارج السياج: كم عددكم في الداخل؟ فأجاب: سؤالك غير مهم. ولكن أخبرني كم عددكم في الخارج؟ ص 185.

وعدوى الجنون ستصيب كثيرين، ومعظم المصلحين اتهموا بالجنون، وبمحاولة قلب السلطة وتهديد النظام العام.

وقد بلغ القائممقام السابق كاتب الرسائل قبل ترحيله إلى المستشفى الوصيتين التاليتين: (قل للأشراف والعمال: الحذر، وتذكر الأعمال الخيرة المنجزة، وإن جرى تقصير في العمل فمن يدري، ربما تعود في يوم تغلق فيه الطرق ويتراكم الجليد ثانية). ص 187.

لغة باشكوت بسيطة واضحة، بعيدة عن أي بلاغة أو تكلف، مستقاة من لغة الريفيين وسكن الجبال، وقد أظهر فيها التمايز بين صفاء الناس البسطاء، ونفاق التجار والملاكين الكبار والوسطاء المحتالين.

وهذا أنموذج من حوار خديجة والقائم مقام أثناء التحقيق معها بشان نسف الجسر:

 هل نسفت الجسر بالديناميت؟

  نعم.

 حقاً؟

 طبعاً.

 حسناً، ومن علّمك استعمال الديناميت؟

 كان أبي يشتغل في قطع الأحجار ومنه تعلمت.

 ومن دفعكِ إلى هذا العمل؟

 لم أفهم.

 أقول: من دفعك؟ هل أنت صمّاء؟

 الجوع يا سيدي.. الجوع! ص 76.

والشخصيات في المسرحية المرسومة بعناية فائقة، تمتزج في حركتها وجسارتها ونمط تفكيرها البساطة وغرابة الأطوار، والفطنة وصدقية التعبير عن الفئة الاجتماعية التي تتحدر منها.

ولا تتضمن مسرحيات باشكوت أي ملاحظات إخراجية، او استطرادات زائدة.

وهو يستفيد من تراث المسرح الأوربي ومن الحكايات الشعبية الشرقية والمحلية، وهو يتكئ في هذه المسرحية على فكرة غوغول في مسرحية (المفتش العام) وعلى مسرحية (وحش طوروس) لعزيز نيسين المسرحي والقاص التركي الساخر. ويسخر باشكوت من نظرة السلطات الاستبدادية وجمودها وتهمها الجاهزة لكل مطالب بإصلاح الأحوال، بأنه شيوعي، ومعيق لحركة التجار واحتكارهم، وعدو لأصدقاء الوالي. إذا استعاد منهم قطع الأرض التي استولوا عليها من أملاك الدولة، ويعرّي بؤس السلطات التركية التي تدّعي الحداثة والعلمنة، بينما يعاد إنتاج الاستبداد والفساد وتوطينه وشرعنته.

وقد جعل باشكوت من المسرح مشروع  حياة، ومبضع تعرية وكشف للتشوهات الاجتماعية، وساهم في إنتاج نصوص مسرحية عديدة، وضعته في الصدارة بين كتاب تركيا، وقد اختير عام 1970 رئيساً لاتحاد الكتاب، لكن الوفاة عاجلته بعد عام واحد، بعد أن أثرى المكتبة المسرحية بنتاجاته المتميزة.

العدد 1140 - 22/01/2025