حتى لا نُنشئ أجيالاً مبتورة القدرة.. صيانة «بعض» من ذلك الطفل المبدع في دواخلنا..!
ثمة إجماع اليوم، أو يكاد، على أن الأدب الطفلي على وجه الخصوص، والثقافة الطفلية، أو الموجهة للأطفال، هي في تقهقر، إن لم تُوصف بالخذلان، فهذا الأدب، الذي افتقد الحاضن التاريخي، كما افتقد إلى التراكم الثقافي، الذي يُهيئ لتبلور مثل هذا النتاج، الذي كان يُفترض له أن يأخذ مكانه، شأنه في ذلك، شأن مختلف الأجناس الإبداعية، كالشعر، والقصة والرواية، غير أن ذلك لم يحدث، وإنما بقي (اجتهادات) ومبادرات فردية، لم ترسّخ لظاهرة..!
لهذه الأسباب
صحيح، أن ثمة أسماء اليوم لها باعها إلى حدٍّ ما في النتاج الإبداعي الطفلي، غير أنها كانت في أغلبها من نتاج مبدعين كبار، (ارتكبوها) إما نتيجة إحباط الكبار، وفقدان الأمل من أن يقدموا شيئاً للوطن، باعتبارهم – الأطفال – أملاً قادماً لما فشل في تحقيقه (الكبار) – حالة الشاعر سليمان العيسى مثال هام على ذلك- أو نتيجة تحدٍّ ما، أو لظروف عقود تجارية -حالة زكريا تامر مثال واضح على هذا الأمر- وقلة جداً إن لم تكن معدومة من كرّس كل جهده ليبدع للطفل في العالم العربي. هذا التعثر، أو قل هذا التقهقر، ثمة من يُعيده إلى انعدام هذا الحاضن والتراكم النوعي لإنتاج ثقافة طفلية مميزة، أو لأن من يكتب للطفل من الكبار غالباً مايكون قد دفن (الطفل المبدع) في دواخلهم منذ زمن طويل، وهنا تقع (الكارثة الطفلية) إذ يكون طفل اليوم، الذي لايزال يحتفظ بكامل إبداعه، ولم يخسر منه شيئاً بعد، وبما يعيشه من ظروف اجتماعية، وبيئة محيطة، توفر له كل وسائل الاتصال. قد تجاوز هذا الكاتب بنصف قرن على الأقل، الأمر الذي يؤكد ماقاله أحد الروائيين: إن طفل اليوم، وأياً كانت كتابته، أهم من أكبر الكتّاب الذين يكتبون للأطفال في الشعر، القصة، المسرح، السينما، التلفزيون، و..حتى أهم بكثير، بل ويتجاوز الذين يرسمون له.سرداً، وتخييلاً، و.. تشكيلاً..!!
الدهر أكل وشرب
حين تتجول في الأجنحة المخصصة لكتب الأطفال في المعارض والمكتبات، تستنتج أن أجيالاً تنشأ مبتورة القدرة في غير الكتاب المدرسي، فغالبية المعروضات في خانة الأدب الطفولي لمعظم دور النشر تساهم في إبعاد الأطفال عن التعرف على متعة المطالعة وسط مغريات تقنية وبصرية تسلب الاهتمام، وبين أطنان الورق المطبوعة بالعربية والمخصصة للأطفال يصعب العثور على كتاب يُثير فضولهم.. هكذا وكأن المؤلفين ولدوا ناضجين، ولم يعرفوا الطفولة قط، ولم يتوغلوا في حكاياتها وسحرها..
ينسى الكتاب أن الدهر أكل وشرب على سيرة شجرة الدّر وزنوبيا، وطارق بن زياد..تلك القصص التي تقدم بهذا الأسلوب الجاف البعيد عن السلاسة والتبسيط والحبكة القصصية الملائمة لطفلٍ ينتمي إلى العالم الجديد في الألفية الثالثة، فضلاً عن الترجمات البائسة لحكايات سندريلا والذئب، وبياض الثلج، و.. الجميلة والوحش، وأليس في بلاد العجائب، التي يمكن التمتع بمطالعتها بلغة أجنبية بطباعة أنيقة وألوان زاهية تقتحم عين الطفل وتحرك مخيلته، وتنمي ذوقه الفني..
كتبنا العربية المسكينة التي تصر دور النشر على عرضها كل عام تفتقر في أحيان كثيرة إلى هذه المغريات الطفلية من الورق المحترم، وتشكو الطباعة الرديئة المتخمة بالأخطاء المطبعية واللغوية، وهي ذات ألوان لاتنسجم مع الكلام، والحكاية، بحيث يسهل على الطفل التوغل في متون الحكايات كحلم يوقظ المخيلة ويحول العلاقة بينه وبين الكتاب متعة بعيدة عن الواجب المدرسي..
منافسة غير مشروعة
معضلة كتب الأطفال تعكس أكثر ماتعكس عدم اعتراف الكاتب الراشد بذكاء الطفل وعدم احترامه حقوقه، وذلك عبر لغة متجهمة ومليئة بالمواعظ الباردة والردعية..
وكأنه ينبغي للطفل أن يبقى أثير الانصياع الأعمى لسطوة الواجب والأعراف والتقاليد التي تُبقي على (اللونين) الشرير والطيب، وهو السيئ إذا ماحاول التفلت منها ليكّون ذاته الطفولية من دون بذل الجهد لقمع هذه الذات إرضاءً لسلطة الراشدين وأداء دور المطيع المثالي..فالتربية مثلما تطرحها معظم الكتب العربية المتوافرة للأطفال تخلو من الفكاهة والطرافة والتسلية، لدرجة يظن من يُطالع هذه الكتب، أنها تهدف لإنتاج كائن كئيب ومحنط يستطيع تحمل كل هذا السوء الطاغي على مجتمعاتنا العربية من دون أن يفكر في الاعتراض خوفاً من خسارة (الجنة) كما تُصور له بهذه الطريقة المخيفة، أو خسارة الجائزة الكبرى..!
والمشكلة أيضاً يمكن إدراجها في خانة الإهمال المنظم الذي يُرتكب في حق اللغة العربية عن سابق قصد، وتعمد لتخريبها..!
ثمة دراسة
ثمة دراسة تؤكد أن المرء في حالة الطفولة، يكون في أكثر مراحل عمره إبداعاً، هذا (الإبداع) الذي ستحكم عليه الظروف الاجتماعية، والبيئية، فإما أن تحافظ عليه لأطول فترة ممكنة مع امتداد العمر، أو تجعله يتراجع، إن لم تقض عليه..!!
لكن أياً كانت الظروف، فالإفلاس سيكون في الشيخوخة، إذ يبدأ المرء، بأن يكرر ذاته، أو يجترها، لاسيما إن كان مبدعاً في مجال الأدب والفن..! و.. الشواهد على (صدق) هذه الدراسة، تبدو جليّة عند أغلب المبدعين، فرغم استمرارهم في الكتابة، فإن قارئهم، ومتابعهم، لابدّ أنه تمنى عليهم، لو توقفوا عن الكتابة، على الأقل منذ ثلاثين سنة مضت، و.. المبدع الذي يستمر طويلاً، أو أطول فترة ممكنة، يجدد في إبداعه، ذلك من استطاع أن يُحافظ على (بعض) من ذلك الطفل المبدع في داخله..!
يبدعون لأنفسهم
هل القول بعد ذلك إنه – ربما – على المبدعين (الكبار) أن يشتغلوا لأنفسهم، ويرتاحوا من عناء (الإبداع) للأطفال، ومن ثم ترك الأطفال يبدعون بأنفسهم في مختلف الأجناس الأدبية، والفنون، ذلك أن مستوى الإبداع لدى هؤلاء الموهوبين يوازي مستوى إبداع التلقي لأقرانهم الذين يتوجهون إليهم أيضاً، فقد أثبتت تجارب بعض الأطفال في الكتابة والرسم تفوقاً واضحاً على ماكتبه (الكبار) لهم، وبين أيدينا عشرات المجموعات الشعرية، والقصصية كتبها أطفال، وكذلك – وهذا أمر لافت وصل إل حد الظاهرة – إنه في الفن التشكيلي، فإن الفنان الحقيقي، هو ذلك من يُنافس عفوية الأطفال في رسوماتهم، و..هنا يُحق لنا أن نتساءل: هل سبب البؤس فيما يُقدم للأطفال اليوم: من إبداع في الكتابة والفنون، سببه استبعاد الأطفال عن مشاركتهم على الأقل في الأعمال المقدمة والموجهة إليهم..؟!!