جنكيز أيتماتوف حي في ذاكرة التلقي
في العاشر من حزيران عام 2008غادر عالم الرواية الروائي القرغيزي السوفييتي جنكيز أيتماتوف، صاحب رواية (جميلة) التي قال عنها أراغون: (أجمل قصة حب في العالم).
أيتماتوف من جمهورية قرغيزيا السوفييتية التي انتقلت بفضل المساعدات الأممية من حياة الرعي إلى الاشتراكية، بكل ما حملته التجربة من فضائل ومزايا ونواقص وثغرات. ولن ينسى الشعب القرغيزي فضل المساعدات المقدمة إليه في جميع المجالات، وبضمنها الأبجدية، لأنه لم يكن يمتلك قبل العهد السوفييتي لغة مكتوبة.
أيتماتوف ابن الثقافة السوفييتية، والوريث الشرعي لـ (تولستوي، ودوستويفسكي ونكراسوف، وغوركي.. وغيرهم من أعلام الأدب الروسي السوفييتي، مع انفتاح على الثقافة العالمية دون التخلي عن الخصائص المحلية لتجارب شعبه، المختزنة موروثاً من الحكمة ومنظومة من القيم الأصيلة.
أبدع أيتماتوف أعمالاً روائية خالدة، دخلت تاريخ الرواية العالمية، وقوبلت بإعجاب كبير، وترجمت إلى لغات كثيرة، بدءاً من روايته (جميلة) إلى آخر عمل كتبه، وقد نقلت معظم أعماله إلى اللغة العربية.
قوبلت روايته (السفينة البيضاء) بهجوم حاد من النقاد السوفييت، حتى أن بعضهم اتهمه بالخروج عن منهج الواقعية الاشتراكية، وتمحور الانقسام حول نهاية الرواية بموت الطفل البطل الحقيقي فيها، برأي معظم قرائها، أو من تصدى لدراستها.
الحكم على عمل روائي لا يتأتى فقط من خلال النهاية التي يرسمها الكاتب لإحدى شخصياته، بل من موقفه المتجسد في مجمل عمله الروائي، فالدلالة النهائية تتوالد من البنية الفنية، والقيمة الفكرية للعمل، فموت الطفل في الرواية، ليس هزيمة للمستقبل، لأن الموت كواقعة، ليس مقياساً معيارياً لعمل روائي، وهو ليس هزيمة، فما زلنا نذكر صرخة شيخ همنغواي (قد يموت الإنسان ولكنه لا يهزم) موت الطفل (في الرواية) كان احتجاجاً على ظروف تقمع العفوية وتصادر البراءة، وتلغي حق الإنسان في تنمية طاقاته الخلاقة، لتحقيق شرط إنساني يؤمّن له حياة تصون كرامة وتضمن حقوقه الإنسانية، وتلبي احتياجاته المادية والمعنوية.
في روايته (الكلب الأبلق) وفّر أيتماتوف للطفل (كريسيك) إمكانيات الاستمرار والعودة إلى الشاطئ، بعد تضحية جسيمة قدمها مرافقوه في رحلة الصيد، في بحر متلاطم الأمواج، فالوالد يلقي بنفسه في البحر، حفاظاً على حياة ابنه، لقد مات الأب من أجل استمرار حياة الابن، فكيف للطفل أن يدرك أن موت أبيه إن هو إلا امتداد لحياته، وتواصل مع المستقبل… إنها جدلية الموت والحياة، الرفض والقبول، ولحظات التوتر والخيارات الفارقة.
كرس أيتماتوف أكثر من عمل روائي لانتقاد الممارسات الخاطئة، التي رافقت التجربة السوفييتية في بناء الاشتراكية، ففي (وداعاً يا غولساري) يدين العنف والتسلط، والبيروقراطية، التي حالت دون تفتّح الأفراد، وبروز قدراتهم الذاتية، هناك أخطاء كثيرة تمارس تحت لافتات مختلفة، وخطب رنانة، وشعارات مضللة، وتصوير الحياة على أنها رخاء وسعادة دون تعب ولا مشاكل، هي من قبيل الخداع والتزييف، وما على الكاتب إلا أن يواجه الأخطاء ويعرّي الزيف، وينتصر للإنسان وحقوقه المشروعة.
أيتماتوف في مجمل إبداعه، واقعي في المنهج والموقف، رومانسي في الأسلوب، إنساني في التوجه، تعانقت لديه أفضل ميزات الواقعية الحية المتجددة، منهجاً في التفكير والتناول، ورؤية لفهم العالم وتحليل الواقع، والتقاط الجوهري فيه، واستخلاص النتائج منه، مع أروع ما قدمته الرومانسية من رقة في المشاعر، وشفافية في اللغة، وقدرة على الحلم، وإغناء لذاتية الإنسان وإعلاء لتميزه عن الآخرين، واندماجه بهم – رواية (أرض الأم).
أيتماتوف باعتراف جميع من تناول أعماله، من أبرز الروائيين السوفييت، ومن خيرة من مثلوا المنهج الواقعي، بدءاً من (المعلم الأول) و(أرض الأم) حتى (يطول اليوم أكثر من دهر).
لقد أثبثتت قدرته الفائقة على ابتكار أشكال جديدة في الرواية معتمداً على استخدام الأسطورة والموروث الشعبي، (الواقعية الأسطورية)، وإعادة إنتاج ما استوعبه من تجربة الرواية العالمية وتخصيبه، مضيفاً إليها بصمته الشخصية، وخصوصيته المحلية، ليؤكد أن العالمية تبدأ من المحلية، لكنها أبداً لا تتوقف عندها…
الوفاء لهذا المبدع يستدعي إعادة قراءة أعماله الروائية، ففيها أجوبة على أسئلة ما تزال الحياة تدفع بها إلى المقدمة، وحسب أيتماتوف أنه قال كلمته في خضم التجربة، أشاد بالمنجزات، وأدان الانحرافات، وتصدى بالنقد الشديد للأخطاء في وقت من يقول الحقيقة، ويختلف مع الرؤية الرسمية للتجربة وإنجازاتها. يدفع الثمن فيه باهظاً.
علمنا أيتماتوف الرؤية الثاقبة للواقع، والتأني في إظهار الأحكام عليه، كما أغنى ذائقتنا الفنية بإبداعه الحي، الذي ندعو الجميع للعودة إليه والاستفادة من إمكانياته المختزنة.