الحكومة تجلد الاقتصاد المريض وتعزز السلطة الأبوية للوزراء
بأعجوبة، نجا المكتب المركزي للإحصاء، وهيئة الاستثمار السورية، من رغبة الحكومة، إلغاء تبعيتهما لمجلس الوزراء، وإلحاقهما بأي وزارة. فيما كان نصيب خمس هيئات وجهات أخرى، الرضوخ للسلطة الأبوية للوزراء. وبذلك تنتصر الحكومة لفريق يسعى لإلغاء استقلالية الهيئات، وتكبيلها بقيود بيروقراطية، وإعادتها إلى سلطة الوزراء، هؤلاء الذين يملكون رغبات شرسة في الاستحواذ على المؤسسات والهيئات، وضمّها إلى سلطاتهم.
بسرعة لافتة، وفي ثالث اجتماع للحكومة في 26 تموز الماضي، قرر مجلس الوزراء إلحاق سبع جهات عامة تتبع لرئاسة المجلس المذكور إلى الوزارات، إلا أن المرسوم 19 الصادر في 25 آب الماضي، حدد تبعية خمس جهات فقط هي: الهيئة العامة للمنافسة ومنع الاحتكار، بوزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، والهيئة العامة للطب الشرعي بوزير الصحة، والهيئة العليا للبحث العلمي بوزير التعليم العالي، والسجل العام للعاملين في الدولة بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ونقل مديرية المطبعة في رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الثقافة.
نجاة المكتب المركزي للإحصاء، و هيئة الاستثمار السورية، خفف من وطأة المقترح، وقلل من النتائج السلبية المتوقعة من هذه التبعية الجديدة، وأثبت وجود تيار يعمل لمصلحة الاقتصاد الوطني، مقابل تيارات أخرى.
لا نريد طرح تساؤلات حول سرعة إنجاز دراسات تتعلق بتبعية هذه الجهات؟ وإذا أخذت في الحسبان مهام الجهات التي لاستقلاليتها عن الوزارات ضرورة ملحة لأداء وظائفها؟ وقطعاً، كان رأي مديري هذه الهيئات مخالف للرياح الحكومية، التي كان لها الغلبة. تصوروا مكتباً للإحصاء يتبع لوزارة، فماذا عن الاستقلالية التي تقتضيها طبيعة عمله؟ إن الاستقلالية عامل موضوعي ومهم تمكنه من إصدار البيانات الحقيقية، دون تدخل. كيف لمثل هذا المكتب المهم، أن يكون تابعاً لوزارة ويصدر إحصاءات وبيانات سنوية لا يشتهيها الوزير؟
أما هيئة الاستثمار، التي من المتوقع أن تمارس دوراً حيوياً في المرحلة القادمة، لاستقطاب المستثمرين، وتشجيعهم على الاستثمار في البلاد المنكوبة، فكانت ستموت سريرياً. وهذا الموقف يتناقض مع الاتجاه العالمي، الذي يقضي بإحداث وزارات للاستثمار.
لم تك الحجج التي ساقتها الحكومة مقنعة، لإلغاء تبعية الجهات المذكورة، فعدد منها يتطلب الاستقلالية في العمل، كونها عين على أداء الوزارات. وحتماً، لا تهتم الحكومة باستقلالية بعض الجهات العامة، وسعت منذ بداية تشكيلها، في تموز الماضي، إلى سحب البساط من تحت عدد من المؤسسات والجهات العامة، التي تحتاج في عملها إلى الاستقلالية. وموقفها هذا نابع من قناعة خاطئة بأن هذه الاستقلالية غير مفيدة. فيما التبعية الجديدة تقيد العمل، وتعطل قانون إحداث هذه المؤسسات، وتجعل منها مديريات تابعة بلا لون، وبلا هدف.
اقتصادياً، نرى أن ضربة قاصمة سددتها الحكومة للهيئة العامة للمنافسة ومنع الاحتكار، وتمكنت من إسكات صوت نحتاجه بشدة، ليكون رقيباً على أداء الأسواق، ورصدها، ومعالجة المظاهر المخلة بالمنافسة، وخلخلة قلاع الاحتكار. كيف يمكن لهذه الهيئة أن تراقب عمل جهات تابعة للوزارات الأخرى، وتبعيتها منقوصة؟ لنتذكر تقارير مهمة للهيئة حول سيريتل، والمعارض، والمطافئ، وما يتعلق بعطاءات حكومية، والأسمدة، ودورها في إلغاء عدد من القرارات الحكومية المتناقضة مع المنافسة، كقرار منع استيراد مواد يزيد رسمها الجمركي على 5%.
كيف لهذه الهيئة التي من المفترض أن يخضع لعملها كل الفاعلين في الساحة الاقتصادية أن تكون جزءاً من عمل وزير ما؟ وهل سألت الحكومة نفسها: ما القيمة المضافة لجعل هيئة المنافسة تتبع لوزارة التجارة الداخلية؟ هذه الوزارة لم تفلح في ضبط الأسعار، ولم تتمكن من تطوير دور مؤسسات التدخل الإيجابي، وعجزت عن إيجاد حلول لمشكلة الخبز، كما أنها أثبتت عجزاً في موضوع توريد أقماح الفلاحين، وعليها الكثير من الملاحظات بشأن ملفي العلامات التجارية والصناعية، ودعم الاختراعات. فماذا ستقدم لهيئة المنافسة؟ بالمقابل، إذا كانت هيئة المنافسة، عاجزة عن أداء دورها، فلنبحث عن الأسباب، ولنتحدث بشفافية عن القوى الخفية التي تحارب الهيئة المخولة بمعالجة حالات الاحتكار والتركز الاقتصادي، ومخالفات الجهات العامة لأنظمة المنافسة. لن تنفع جهود هذه الهيئة الأن في معالجة خلل كهذا، لأن المسافة الحرة التي كانت تملكها، بغطاء من مجلس الوزراء، وقانون إحداثها الصادر عام 2008، اختزلتها التبعية الجديدة، إلى أضيق الحدود، وباتت بيد الوزير المختص.
وجود هيئات مستقلة، ضرورة تقتضيها عدة عوامل اقتصادية وسياسية، في آن واحد، وترسيخاً لمبادئ دستورية، ولضمان الشفافية. وبقدر أهمية خلق هيئات متطورة بقوانينها، وأنظمتها الجديدة، وبتحديد مهامها بوضوح، نحتاج أيضاً إلى المزيد من القناعة بدور هذه الهيئات، والتخلص من ذهنية تبعية العديد من المؤسسات لوزارات تئن سلفاً من كثرة المهام المطلوبة منها. ويجب عدم هدر الوقت، وتضييع الخطوات التي قطعها الاقتصاد السوري سابقاً، على صعيد الاندماج بالاقتصاد العالمي، وخلق مؤسسات اقتصادية قادرة على المواءمة مع متطلبات هذا الاندماج، وتبديد النتائج المعقولة المتحققة.
إن الحلول التي تتبعها الحكومة، تؤكد أنها تسير بالاتجاه المعاكس للطموحات التي رافقت تشكيلها، وفي بعض الأحايين تحاول ـ أي الحكومة ـ اختراع الدولاب مجدداً، فهي بهذه الخطوات والقرارات والتوجهات، تجلد اقتصادنا المريض.