الشركات العائلية والصغيرة.. هذا هو اقتصادنا
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفرّد الولايات المتحدة بقيادة العالم، تسيّدت الليبرالية الجديدة الاقتصاد العالمي، وتعملقت الشركات المتعددة الجنسية، وراحت تنقل مصانعها ونشاطاتها إلى بلدان العالم النامي المختلفة، حيث اليد العاملة الرخيصة، والواحات الضريبية، وشكّلت هذه التغييرات ضغوطاً على الشركات الصغيرة والعائلية في العالم، لكنها لم تقلّص كثيراً من مساهماتها، إذ بقيت تشكل غالبية التجمعات الإنتاجية، ولعبت هذه الشركات دوراً مهماً وحيوياً في اقتصادات الدول، فهي وليدة المبادرة الفردية، وهي تمثّل سعي الإنسان لاستخدام حريته الاقتصادية وإبداعه من أجل تنمية موارده الشخصية من جهة، والمساهمة في الحياة الاقتصادية لبلاده من جهة أخرى، إنها نواة العمل الجماعي الذي أخذ فيما بعد أشكالاً متعددة كشركات التضامن، والشركات المساهمة.
وتلعب الشركات العائلية في الدول الصناعية دوراً نشيطاً في نموها الاقتصادي، إلى جانب الشركات العملاقة التي لم تستطع تهميش دور الشركات الصغيرة، ففي أوربا اليوم عددٌ هائل من الشركات العائلية تتوزع على مختلف الأنشطة الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية، وفي الولايات المتحدة تساهم هذه الشركات بنسبة 50% من الناتج الوطني، وتوظف أكثر من 50% من القوى العاملة، وتمثل أسهم الشركات العائلية اليوم 35% من بورصة نيويورك، أما على الصعيد العالمي فإن هذه الشركات تشكل 80 – 85 % من إجمالي المؤسسات والشركات الاقتصادية العالمية.
وتأكيداً لدورها في الاقتصاد العالمي، أجرت جمعية المنشآت العائلية المتوسطة في فرنسا بحثاً معمّقا ، هدفه مقارنة نتائج المنشآت سواء كانت عائلية أو غير عائلية. فجردتْ حسابات 412 منشأة في خلال عملياتها بين عامي 1997 – 2001 وتمثل عيّنة من 206 أزواج من المنشآت المتوازية في الكبر وحجم الأعمال ومجال النشاط، أحدهما يتألف من منشآت تمسكها عائلات بنسبة 33 % على الأقل أو تكون العائلة هي المساهم الأول فيها وتشرف على رقابتها، والثاني لشركات مختلفة لا تتدخل العائلات في ملكيتها أو إدارتها، واعتمد هذا البحث على 53 معدّلاً اقتصادياً ومالياً، أظهرت على صعيد حجم الأعمال، أن العائدات الصافية للمنشآت الموروثة، هي أكبر مرّتين مما لدى المنشآت غير الموروثة. وعائد الاستغلال أهم بأربع مرّات، أما في عائد الرساميل الخاصة، فمال الميزان لمصلحة المنشآت ذات البنية العائلية بنسبة واحد إلى خمسة، علماً بأن هذه النتائج تحققت في فترة مضطربة عرفت الأسواقُ فيها تقلبات شديدة، فأكّدتْ أنَّ المنشآت العائلية تتقن، أفضل من غيرها التكيف مع البيئة الاقتصادية وتغيراتها، وتوافقت هذه النتائج مع نتائج دراسة أمريكية بيّنتْ أن عائد المنشآت العائلية الأمريكية المسجلة في البورصة، هو أعلى بنسبة 29 % عنه في سائر المنشآت في الفترة ما بين 1992و 1999. (1)
في الاقتصاد السوري.. التعريف الوطني للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة
حتى تاريخ 14/11/2008 لم يكن لسورية بجميع هيئاتها ووزاراتها ومنظماتها الداعمة تعريف وطني رسمي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، مما أدى إلى حدوث اختلافات في الإحصائيات والدراسات والبيانات عن حجم هذه المؤسسات وتوزعها، من خلال اختلاف المصادر المحددة لتصنيف هذه المؤسسات.
ويتطابق هذا التعريف مع معايير المفوضية الأوربية الذي يُدخِل، إضافة إلى العمال، كلاً من المبيعات والميزانية مع اختلاف القيم نظراً إلى الفروق بين أرقام أعمال المؤسسات السورية والأوربية.(2)
تشكّل الشركات العائلية والصغيرة والمتوسطة نحو 85 % من عدد المؤسسات الاقتصادية، وتوفر مابين 60- 80 % من فرص العمل، لكنها تفتقد إلى كثير من الخبرات المتراكمة لا سيما بعد انتقالها للجيل الثاني أو الثالث، كما يؤدي غياب السياسات الموجهة لدعم هذه الشركات وخاصة في مجال التحديث التقني والإقراض المصرفي، دوراً كابحاً في تطويرها، بعكس الدول المتطورة التي تسعى لمساعدة هذه الشركات على التطور ضمن النسيج الاقتصادي. وتشكل الشركات العائلية والصغيرة والمتوسطة نسبة 22,64% من مجموع المؤسسات الصناعية في سورية البالغ ،26500 أما نسبة 76,9 % فهي للشركات الصغيرة جداً، والنسبة الباقية وتقدر بنحو0,05 % للشركات الكبيرة، وتساهم الشركات الصغيرة بنحو 80 % من الناتج في قطاعي التجارة والسياحة، و50 % في قطاعي الزراعة والبناء، و30 % في قطاع الصناعة و20 % في قطاع النقل والمواصلات(2).
وتأخذ الشركات العائلية والصغيرة أشكالاً قانونية مختلفة تتوزع بين شركات التضامن والتوصية البسيطة وعددها نحو 10000 شركة، في حين يبلغ عدد الشركات محدودة المسؤولية نحو 800 شركة، والمساهمة المغلقة 200 شركة، والمساهمة ذات الاكتتاب العام 50 شركة.(3)
التنمية.. وإعادة الإعمار
إن عملية الإعمار، بخصوصيتها السورية، تعني أكثر من البناء.. والتصنيع.. وإنتاج المحاصيل، لقد جعلت مجريات الأزمة السورية من هذه العملية – حسب اعتقادنا- خطة شاملة لبناء الإنسان السوري الجديد أيضاً، الإنسان الإيجابي.. الديمقراطي، المتمسك بانسجام مجتمعنا الذي هدَّدتْه دعوات التطرف والتفتيت الديني والطائفي، والارتقاء إلى مجتمع علماني يعطي (ما لله لله وما لقيصر لقيصر). وهذه عملية قد تكون أكثر إلحاحاً وأهمية من البناء المادي للحجر والشجر.
لقد طرحت تداعيات الأزمة السورية.. وما سبّبه الإرهاب من ضرب وتخريب وحرق للبنية التحتية.. والمنشآت الاقتصادية، والمآسي المتعددة التي أصابت السوريين (الهجرة.. الفقر.. البطالة.. تدمير المنازل) أمام الحكومة السورية، مهمة إعادة الإعمار، وبدأت أوساط دولية مرتبطة بالمنظمات والصناديق الدولية بتحضير سيناريوهات متعددة.
لذلك نرى أن إعمار ما تهدم لن يتحقق بالاستناد إلى سياسات اقتصادية كانت السبب في تحجيم قطاعاتنا المنتجة، وفي إثارة غضب الجماهير الشعبية في العقد الماضي، ولا بالاستناد إلى سيناريوهات أُعدّت.. وتعَدّ اليوم أيضاً من قبل المؤسسات المالية الدولية ووكلائها، بل يتحقق بعد توافق السوريين على سياسات اقتصادية تعددية، تنموية، استناداً إلى خطة مركزية حكومية، يساهم فيها القطاع الخاص والرساميل الوطنية..، خطة تضمن التوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي الناتج عن قطاعات الإنتاج الحقيقي لا الريعي، ومتطلبات التنمية الاجتماعية، تتوزع على مدد زمنية محددة، وتُستخدم لتنفيذ هذه الخطة المواردُ المحلية الحكومية، ومساهماتُ القطاعات الخاصة المنتجة. كما يمكن الاستفادة من قروض الدول الصديقة والشقيقة، وقروض الصناديق المالية الدولية غير الخاضعة لهيمنة الأمريكيين، ومن برامج التنمية التابعة للأمم المتحدة. والمنح والتبرعات غير المشروطة، وسندات الخزينة المخصصة حصراً لتنفيذ مشاريع الإعمار، والاعتماد في تنفيذ هذه المشاريع على الشركات والمؤسسات الحكومية، خاصة شركات الإنشاءات العامة، والقطاع الخاص الوطني المنتج، الذي تشكل الشركات العائلية والصغيرة عموده الفقري، خاصة بعد(هروب) الشركات القابضة إثر اندلاع الأزمة السورية!
المهمة الملحة اليوم هي العمل على مساعدة هذه الشركات للعودة إلى نشاطاتها.. وتشجيع من هاجر منها على العودة إلى الوطن، وإصدار التشريعات التي تسهّل منحها القروض من المصارف العامة والخاصة، وذلك ضمن خطة الحكومة لإنهاء حالة الركود الاقتصادي.. والتحضير لإعادة الإعمار..
******
المراجع
1 – صحيفة الحياة بتاريخ 6 /8/2007
2 – د. عامر خربوطلي في ندوة جمعية العلوم الاقتصادية20/9/2016
3 – النشرة الاقتصادية لغرفة تجارة دمشق، نيسان 2006
4 – أرقام عام 2010 وما قبل.