الشعر ودلالة المسمى

يقول هربرت ريد: (إن السعادة الأولى لخيال الشاعر هي، بدقة، الابتكار، أو إيجاد الفكرة، أما السعادة الثانية فهي الخاطرة، أو التغيير، مستمداً، أو مصوغاً من تلك الفكرة كما يمثلها الحكم ملائمة للموضوع، وأما السعادة الثالثة فهي الأسلوب الكلامي، أو فن إلباس تلك الفكرة المكتشفة والمغيّرة وتزيينها بكلمات  ملائمة ودالة ومصونة. وتُرى سرعة الخيال في الابتكار، وترى خصوبته  في الخاطرة، وترى الدقة في التعبير.

  ما يطرحه ريد يشكل جزءاً حيوياً، وأساساً من أسس بنية القصيدة، ويؤسس فكرة أولية لعملية الصياغة الشعرية ككل في مناخ يؤدي بمجمله إلى نظرية، أو فرضية الدخول في تفاصيل الكتابة الشعرية. أما فيما يتعلق بعملية الخلق، أو الابتكار، عملية الفعل الشعري بحد ذاته، فهذا يتعلق أساساً بفعل الخلق ضمن فلسفة الذات، أو الوجدان الفذ، عندما  يملك التأهيل الأعلى في سياق خيال مستعد للقيام بحياكة نسيج شعري مميز بخصوصية وابتكارية عالية. ما يعبر عنه المنهج النظري يتطرق لفكرة بنية القصيدة المثلى، في إطار عموميات أساسياتها الحرفية التي هي قواعد وأسس بنيان القصيدة.

 في المنهج التطبيقي، وخاصة في غالبية الكتابة الشعرية الراهنة، نجد أنفسنا غارقين في مناهج وافتراضات شعرية تقارب حافة الشعر، وتلامسه عن بعد، ولكنها حقيقة تكاد بمجملها لا ترقى إليه، ولا تصعد ذروته النائية الخارقة، لأنها كتابات متداولة ضمن سياقها العام، متداخلة ومتشابكة من حيث لغتها ومفرداتها ومضمونها، من حيث نسيجها وذاتيتها الهشة، وحتى في ثقافتها الهشة التي تقارب ثقافة السطح، وأول ضفاف الكتابة. فإذا كان الفعل الشعري يفتقد لأساسياته، ومقومات خلقه ابتداءً بالفكرة وانتهاء بالخاطرة، إذا كان الفعل الشعري يفتقد، ويفتقر لمثل هذين المقومين، فكيف يمكن له أن يصل إلى حدود الخيال الفذ، وهو في أرقى حالاته الشعرية والشعورية أدنى كثيراً من أن يصل إلى حافة حدود الخلق والابتكار لأنه مسحوق تحت وطأة عموميات منحرفة عن مقصد الإبداع لا تمت للشعر العالي الأصيل الخارق من قريب أو بعيد. نحن لا نؤمن كثيراً، وخاصة في الشعر، بعملية التنظير الفرضي لما يجب أن تكون القصيدة المثلى قائمة عليه، في حال كان ذاك التنظير الفرضي يقف عند حدود الكم الأمثل من الشعر، ويسقط باقي الحالة الشعرية القائمة، التي هي ذات راهنية خطيرة للغاية، لأن الكمية الفائضة من الكتابات الشعرية أغلقت مجال النقد تماماً، ولم يعد يدري الناقد النادر من أين يبدأ نقده للشعر الحقيقي والساحة غارقة بالفوضى والارتجال.

نحن، بكلمة بسيطة جداً، يمكننا القول إننا نقف عند مساحة غائمة وضبابية حادة فيما يتعلق بموضوعة الشعر، لذا نجد دلالة هذا المسمى الجميل الباهي قد افتقدت توهجها ومصداقيتها، أو كادت، من حيث تصور خاطئ جداً يصل إلى درجة المهانة في استسهال عملية الكتابة الشعرية، تلك الكتابة الصادرة عن ذات شبه عامة، وعادية جداً حذفت من قاموس الشعر وأساسياته الأكاديمية والإبداعية المتعارف عليها، حتى ذاك المعيار الذي تقوم عليه القصيدة مبنى ومعنى يرتكز على ثلاثية البناء التي تصورها ريد في ما سماه بالفكرة والخاطرة، ثم تأطير هذين المسميين بالمسمى الأهم والأخطر وهو الخيال، إن ميوعة مسمى القصيدة، بمفارقها الغائمة والعائمة والفضفاضة لدرجة الابتذال والمستحيل قد سمح لأشكال عدة من الكتابات المتنوعة أن تندرج تحت إطار القصيدة، بذريعة التجربة الإبداعية الراهنة المفتوحة على احتمالات عديدة، تقحم في ملكوتها قصيدة البيت العربية، وقصيدة التفعيلة، والنص النثري الذي اعتبره البعض مقابلاً تماماً للقصيدة، من حيث أن النص بإيقاعاته الداخلية، التي تشكل موسيقاه، مقاربة تامة لموسيقا قصيدة البيت، أو التفعيلة، لذا يمكن إدراجه تحت مسمى (قصيدة النثر)، ولكون هذا المسمى لم يتخذ بعد شكلاً ولا تسمية نهائية مستقرة، لذا عمدت بعض الدوريات الراهنة إلى إدراج مسمى (نص) على النص النثري، لأن حقيقته حتى الآن لم تستقر على حال، ولأن هذه التسمية هي الأقرب لقبول منطقي معقول. إن ساحة الشعر مرتبكة ومربكة، تلك حقيقة، ومع هذا فالساحة ذاتها أفرزت، وستظل تفرز على امتداد العصور، شعراً نادر الجمال والرهافة والشفافية، وكذلك ستضعنا أمام نصوص نثرية رائعة، ومهمة  وحيوية بحيث يشكل النص في قيمته الإبداعية أفقاً موازناً للقصيدة الجيدة، في حين أن ميزان التقويم النقدي لو قام بعملية غربلة وتمحيص لما تكتظ به الساحة الشعرية من تراكمات المستحيل الشعري لأسقط من حسابه التقويمي الكثير جداً مما تنوء به تلك الساحة، ورفع مياه القصيدة الجميلة الغائبة، والنص الجيد إلى المكانة التي تليق، وإذا كان هذا يبدو غائباً الآن، فثمة لحظة قادمة لا بد لها من عمل ذلك، في زمن لا بد منه قادم لا محالة.

 إن ريد لو وقف على حالة الشعر الراهنة، هو أو سواه ممن كتبوا في طبيعة الشعر وأحواله، وكذا خصاثصه وتقنياته لأصيب بالصدمة، والدهشة على السواء، ولأعاد كتابة أبحاثه في (طبيعة الشعر) بخصائص وتقنيات وتصورات أخرى. ومع هذا فإن ديناميكية الحياة وتطوراتها وانبثاقاتها الجديدة تتطلب أن يقف العقل والوجدان معاً لإعادة صياغة الفلك الثقافي بما يؤهله لأن يصبح فلكاً مهماً في مجراه الراهن الذي تجاوز حدود المعقول، والممكن والاحتمالات كافة.

العدد 1140 - 22/01/2025