تواكب الحراك التشكيلي شبه منفردة.. «الحياة التشكيلية» تحتفي بصدور عددها المئة
بصدور العدد مئة مؤخراً من مجلة (الحياة التشكيلية) السورية، التي تصدرها مديرية الفنون الجميلة بوزارة الثقافة، فإن المجلة تكون قد بلغت من العمر أربعاً وثلاثين سنة، فقد صدر العدد الأول منها خريف عام 1980 وهي من ذلك التاريخ تكاد تكون المعادل النقدي شبه الوحيد للحركة التشكيلية السورية المعاصرة، التي صار عمرها اليوم أكثر من مئة سنة..!
معادل نقدي
صحيح أن المشهد التشكيلي السوري شهد أكثر من إصدار دورية إعلامية تُعنى بالحراك الفني الجمالي في سورية، منها ما أصدرته جهات حكومية رسمية، أو شبه رسمية، إضافة إلى ما كانت أصدرته جهات أهلية خاصة، لكنها كانت مشاريع سريعة التوقف وغير منتظمة في الصدور، وبالتأكيد، يُضاف إلى ذلك المتابعات النقدية التي تقوم بها الصفحات الثقافة في الصحافة المحلية، وغير ذلك مما يُصدر من كتب متخصصة بالنقد التشكيلي..
ورغم استمرار الحركة البصرية التشكيلية في سورية، دون انقطاع، ورغم توسعها وتنوعها، فقد شملت التظاهرات الفنية مختلف الأعمال والأجيال الفنية، غير أنها جميعها، كانت تفتقد إلى نقد موازٍ لها، حاولت (الحياة التشكيلية) أن تسد هذه الفجوة. يذكر الناقد التشكيلي سعد القاسم عن لحظة إصدار هذه المجلة، أنها صدرت في وقت كان المشهد التشكيلي السوري يمتلك حيوية مدهشة تُعبّر عنها المعارض المحلية والزائرة التي تكاد لا تتوقف، والحوار الحار، غير المعلن بين المفاهيم المختلفة لأجيال التشكيليين السوريين المتزامنين في حضورهم الإنساني والإبداعي.. كل ما سبق كان يؤكد الحاجة إلى وجود مجلة تشكيلية سورية متخصصة، وإليه كان هناك ما يُبشر بولادة مثل هذه المجلة استكمالاُ لمجموعة (الحيوات) كما أطلق على المجلات الفصلية المتخصصة التي بدأت وزارة الثقافة بإصدارها منذ أواخر السبعينيات، وكان طارق الشريف أول رئيس تحرير للمجلة.
حقيبة سفر
في العدد مئة من (الحياة التشكيلية) لم تكتفِ المجلة بالاحتفاء بمناسبة الصدور الذي اتخذ محوراً بكتابة الناقد القاسم، وإنما تناولت – كما في كل مرة – ملفاتها المعروفة كحوار العدد، وفيه حاورت المجلة الفنان التشكيلي السوري زياد دلول، الذي كان له بصمته الفنية المتجولة في الكثير من دول العالم، وإن اتخذت صفة الاستقرار في العاصمة الفرنسية باريس، دلول الذي بدا فناناً مسافراً أبداً، لكن لوحته جاءت كأنها حقيبة سفر يضع فيها مما خزنتّه الذاكرة في جنباتها وتفاصيل تذكرها: نساء وشجراً وأشياء.. يقول عن هذه الحالة الذاكرية: إنه لايمكن أن ترسم دون الرجوع للذاكرة أو دونها، ولا يمكن أيضاً تركهم ببعد واحد، وإلا كان العالم المرئي هو اللوحة، ثمة في اللوحة عالم مرئي آخر، ومن نافل القول أن تحمل اللوحة مجموعة كبيرة من الذكريات: الطفولة، العلاقات الثقافية، وذكريات قادمة أيضاً، علاقة اللوحة بالذاكرة حوارية، هي مفردات أساسية يعمل عليها دلول قبل سفره، وخلال إقامته خارج الوطن، يقول: وأنا لا أعرف متى ستتوقف، بل وأرجو لها ألا تتوقف..!
فيما يخوض رئيس تحرير المجلة الدكتور محمود شاهين في بحثٍ مطوّل حول (الفنان: شخصيته..محترفه، وبازار عبقريته) وفيه يذكر: أصبحت شخصية كلمة (فنان) هذه الأيام تستدعي معاني لا حصر لها، بحيث صارت دون ربطها باصطلاح آخر لا تعني شيئاً محدداً، تماماً كما هو الأمر بالنسبة لكلمة (فن) العائمة والملتبسة، التي صارت تعني كلّ شيء، ولا شيء في الوقت نفسه، وبعيداً عن هذه التصنيفات، يبرز تساؤل مشروع حو ماهية الفنان الحقيقي الذي يجترح فعل إبداع تقليدي أو حديث: أهو إنسان عادي كبقية الناس، أم هو متميز عنهم بمواصفات خاصة، والإجابة عن هذا السؤال يورد الباحث عشرات الإجابات المختلفة والمتعددة.
بين إبداعين
في مبحثٍ آخر، يتناول الناقد عبد الكريم فرج (الطبيعة المخلوقة والإبداع الفني) وذلك من خلال نظرية هربرت ريد، وفيه يذكر: انطلق هربرت ريد إلى تعريف الفن من البيئة الطبيعية التكاملية ومكونات الطبيعة المخلوقة، عندما وجد مماثلة بين الطبيعة والإبداع الفني. وفي دراسته لأعمال التصوير للفنان بول سيزان، اكتشف تلك الكفاية البنائية التي تُماثل الطبيعة في جوهرها وخصوصاً فيما يتعلق بالحياة والحركة العضوية السائدة في الكون..فقد أعطى هربرت ريد للرؤية الموضوعية الأهمية الأولى عندما نظر لأعمال سيزان، هذه الرؤية التي لا تعبأ بنزوات الإنسان الطارئة، أو تغيراته المزاجية، ووجد أن أعمال سيزان تأخذ مسوغات وجودها من الفطرة، تلك التي تسير بنظام بنائي منظم وعبر قوانين هندسية وحسابية تعطيها تلك الهيبة والجمال، واعتبر أن التنظيم الإبداعي في أعمال هذا الفنان يُذكّر بالمنشور السداسي في خلية النحل، و..كذلك في نظام المحارات او الأصداف اللؤلؤية والمكونات الطبيعية الأخرى كافة.
بالعودة إلى العدد مئة من (الحياة التشكيلية) يذكر رئيس تحريرها الفنان شاهين: لقد أنيط بالمجلة مهمة توثيق الفعاليات التشكييلة، ووضع دراسات نقدية تحليلية حول المنجزات الإبداعية للفنانين التشكيلييين السوريين باختصاصاتهم المختلفة، والإطلال على الفنون العربية والعالمية وتأريخها.
هذه المجلة صدرت حتى العدد الـ 68 بالأبيض والأسود، ثم صارت تصدر بعد ذلك بحجم وإخراج جديدين وبالألوان، بغلافها وكامل صفحاتها مع زيادة عدد النصوص البصرية الضوئية.