الدوران على مساحة لوحة تشكيلية.. المولوية.. إغواءً فنياً أيضاً
تروي الحادثة التاريخية أن المتصوّف جلال الدين الرومي (1207-1273م) كان يسيرُ ذات يوم أمام أحد الصاغة في بلدة (قونية) التركية، عندما هبطت عليه نفحةُ الحب الإلهي، فإذا به يدور على نفسه في رقصةٍ انضمَّ إليها الصائغُ صاحبُ الدكان، ومنذ تلك الحادثة العرفانية، أي منذ ما يزيد على السبعمئة سنة إلى اليوم، وهذه (الحركة) الدورانية – الرقص حتى التحليق، والجسد في خدمة الروح، تتفرعُ إلى مدارس، وأتباع، تُحيي الليالي الكثيرة والطويلة، وفي أحيان عديدة غالباً ما انزاحت عن حالتها الدينية لتدخل أكثر من حالةٍ دنيوية، وإن التقت الحالتان – الدينية والدنيوية – في أكثر من منعطف ونقطة، أهمها الجمال، فقد استُعيرَ هذا (الدوران) بما يحملُ من مواربة بين الثبات والحركة، وإنتاج الفعل من الثبات إضافة إلى جماليات الاستعراض، ليدخل في تفاصيل أكثر من عملٍ إبداعي، وفي مختلف الفنون، التي كان من أبرزها، على مدى ما يُقارب العقد من السنين، عندما دخلت هذه الحالة الدورانية اللوحة التشكيلية السورية، تلك اللوحة التي تصرّ على مدّ مجسّاتها باتجاه إرثٍ هو من الغنى بحيث لا يستطيعُ أيَّ عملٍ فني أن ينقطعَ عنه مهما بلغ من تفرّد، ومهما حاول المفارقة.
باتجاه الأعالي
هذه (الدورانية) التي كانت من الإغواء بحيث جذبت إلى ملاءاتها البيض ثلاثة من فرسان التشكيل السوري، وهم، وإن كان لكل منهم (دورانه) الخاص، غير أن ثمة الكثير من الحالات الجمالية كانت تتقاطع في (دوران) الثلاثة، وهم: الفنان التشكيلي محسن خانجي الذي كان الأسبق بين هؤلاء الثلاثة الذي سحرته المولوية في تحليقها، فقدمها ذات حين من عام 2003 في أكثر من معرض، منها معرضه الذي لا يزالُ في الذاكرة بصالة السيّد بدمشق، وقد سبق له أن نوّع خلالها على مدى ما يُقارب العشر سنوات، حتى أنها – المولوية- شكلت مرحلة هامة في شغل هذا الفنان، قبل أن تستهويه مفردة تشكيلية أخرى، ثم كانت تجربة الفنان والمصمم بديع جحجاح، الذي أقام أول معارض المولوية ذات حين من عام 2010 في بهو فندق قصر الشهبندر بدمشق القديمة، ثم أصبحت مشروعاً تشكيلياً قائماً لدى هذا الفنان هو الآخر، وأحدث ما قدم، لاقى احتفالاً كبيراً، في دار الأوبرا ضمن مشروع (أفلا)، ومؤخراً دخل حلبة الدوران التشكيلي الفنان والشاعر فراس كالوسية، في معرضه (سلا) في بهو فندق الباشا بدمشق القديمة، تلك الأماكن العتيقة، التي تُعيد ذلك الدوران المشتهى باتجاه الأعالي بكامل الشغف.
استعارة المولوية
ما يُمكن قوله أن شغل هؤلاء الفنانين الثلاثة، لم يأتِ توثيقياً، وإن تقاطع مع التسجيلية في بعض المنعطفات، فمحسن الخانجي يركّز على حالة الفرح في وجوه الدراويش، وذلك (الغوصان) الداخلي في عمق الكون والخالق، وعلى الحركة الداخلية، وتراقص الألوان. فيما كان سعي بديع جحجاح في أعماله الأولى على استعارة المولوية للوصول إلى حمام الضوء كما سماه، الذي يعكسه الأبيض، أثواب الدراويش البيضاء التي ستكون أو تشكّل معادلاً لصفحات حياتنا ومرآتها، ماذا سجلنا بها، وماذا دونّا، وإلى أين وصلنا من خلالها، رحلة الإنسان عبر هذا البياض الكلي الذي يبدو تارةً ناصعاً، وطوراً موشحاً، وحيناً لابدّ من بقعٍ حمراء تحتمل هي الأخرى أكثر من تأويل، أو أكثر من انزياح، ذلك أن هذا التحليق له غاية في نهاية التجربة، كما يهدف (الدرويش) المحلق لاتحاد ال (هو) وال (هو) بالسكون والحركة، وذروة التحليق هي الثبات والراحة، والنشوة. فيما فراس كالوسية، يجمع – كما يقول- بين الشكل والصورة، والحقيقة لإضفاء الشعور بالسمو في عالم الفضائل، فركز على حركة الدرويش الذي يضم يديه إلى صدره، وكذلك على الشفافية في ثوبه، حالة الضم هذه قاربها بفعل المحبة، فأول ما تحب شخصاً تشعر نحوه بجاذبية الضم.
القبور السابحة
بعض اللوحات تصوّر المولوي، لاسيما بحالة الفرادة، وليس جماعياً، وهذا ما تكرر بكثرة عند الفنانين الثلاثة، سواء بحالة الحركة، أم في حالة السكون، ولوحات أخرى، فيها مثنى، وزرافات، وهنا أحبّ أن أعطي فكرة عن المولوية، إذ إن لباس المولوي أو الدرويش، يُشير إلى الأمور التالية: اللباس الأسود، ويعني القبر، أما اللباس الأبيض، فيُشير إلى الكفن، فيما يرمز الطربوش، أو اللبادة إلى شاهدة القبر، ثم تأتي الرقصات الجماعية للمولويين إشارة إلى نص الآية القرآنية (وكلٌّ في فلكٍ يسبحون)، فهم يشبّهون أنفسهم في حالات الرقص هذه كالأفلاك التي تسبح في السماء، وذلك في أقرب نقطة إلى خالقها، أما أخذ حالة واحدة في اللوحة، فجاء للتعبير من خلال الوجه، أو حركة اليدين، أو العيون، فيما تصوّر اللوحة الجماعية الحالة العامة، ولا تدخل في الحالة التفصيلية للمولوي.. وهذا الأمر يكاد يكون متوفراً بالقراءة ذاتها والتناول نفسه عند الفنانين الثلاثة.
اللافت، في كل حفلات الافتتاح لمعارض هؤلاء الفنانين الثلاثة: الخانجي، وجحجاح، وكالوسية، أنهم كانوا يستقدمون فرقة مولويين يقدمون وصلات من المولوية خلال افتتاح المعرض، وأظن هنا أن فكرة وجود المولوي يرقص داخل صالة عرض اللوحات، يأتي نوعاً من التكامل، وتوصيل الموضوع – المولوية بين السكون والحركة – للمتلقي، ليس بسبب عجز اللوحات عن فعل ذلك، وإنما لتوصيل الفكرة أسرع – ربما – وتشكيلياً، فإن المتلقي يدخل الحالة أكثر، ويتعايش معها، والأمر هنا أقرب إلى فنون معارض التركيب، أو التجهيز، بحيث يكون المتلقي نفسه جزءاً من المعرض، أو أحد مفرداته، وليس متلقياً وحسب.
تواشيح في الضباب
يأتي فضاء اللوحة أو خلفياتها، التي تتغازل وتتآلف فيما بينها من ألوان التركواز، الذي هو مزيج بين أخضر الطبيعة، وألوان البحر والسماء، ثم يتم صبغها باللون الذهبي والترابي – تحديداً لدى جحجاح – في لوحات تالية، ليقدموا نعيماً ما، للإنسان الذي يبدو معانقاً الهواء، وسابحاً في الفضاء، وقد غابت الوجوه في التوشيح، أو في الضباب الذي ألبسها الفنان هنا سحرها تقشفاً لونياً مرةً، ومرةً أخرى غنى لونياً لا حدود له..
ذات حينٍ من أيام القرن التاسع عشر جذب سحر الشرق الفنان والمستشرق الفرنسي الشهير (جان ليون جيروم) 1824-1904 وهو يُعد أحد أبرز المستشرقين الذين قدموا إلى الشرق العربي والإسلامي في ذلك الزمان، ومجموعة رسومه تتناول رسوماً تاريخية والأساطير الإغريقية ولوحات عن الشرق. ومما جذبه من سحر الشرق رقصات المولويين الذين وثقهم بلوحة لافتة، ربما كانت الأسبق في استعارة تحليقات الدراويش لبناء عمارة تشكيلية.
بقي أن نذكر أن (المولوية طريقة من الشعائر الصوفية، وهي طقوس احتفالية بكل ما فيها من معانٍ رمزية، حيث تقام حلقات الذكر وترديد الأناشيد الدينية تحديداً في شهر رمضان والمناسبات الدينية). وقد تأثر بجلال الدين الرومي العديد من كبار المتصوفين أمثال: الغزالي، محيي الدين بن عربي، السهروردي، البسطامي، الحلاج، و..غيرهم، والمولوية، وإن كانت تنسب إلى مؤسسها جلال الدين الرومي غير أن الفنان محسن الخانجي يُرجعها إلى زمن الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق، إضافة إلى تفرعات المولوية المختلفة: القادرية، السهرودية، الرفاعية،.. وطرقها المختلفة في حلب، والقاهرة، وإيران، وتركيا، و..المغرب العربي. كل ذلك الغنى في هذه الحركة السابحة باتجاه خلاص السماء – ربما يكمن فيه ذلك الإغواء التشكيلي الذي سحر هؤلاء الفنانين..!