في الثقافة الوطنية
للثقافة أكثر من تعريف، ولكن، ثمة إجماع على أنها كل ما يساعد الإنسان على تكوين رؤيا تمكّنه من اتخاذ موقف مما يواجهه في شبكة علاقاته مع الطبيعة والمجتمع، فسواء أكانت الثقافة من الحذق والدراية والدربة، أم من تقويم الاعوجاج، كما هي عند العرب، أو من الحراثة وشق التربة والخصوبة، كما هي عند الغرب، فالدلالة النهائية لها تتجسد في تمكين الإنسان من تصحيح مساره وصوابية قراراته، وإنماء ثروته المعرفية، وإغناء خبراته، بما يساعده على فهم الواقع ومواجهة الحياة.
أما (الوطنية) الصفة المحددة والمميزة للثقافة، هنا، والتي تحدد دلالتها، فمرجعيتها لا تعود إلى الوطن، كنسبة، لأنه في المحصلة النهائية، ليس كل ما ينتجه أبناء الوطن، في الداخل أو الخارج، يمكن أن ينضوي تحت مفهوم الثقافة الوطنية، فهي لا تعادل في الدلالة، مثلاً معنى الصناعة الوطنية، فكل إنتاج صناعي ينجز على أرض الوطن، يدعى صناعة وطنية، فالوطنية هنا، في مفهوم الثقافة متأتية من الوطنيّ، أي كل ما يساعد على بناء الوطن، وحمايته، والعمل على تقدمه، وازدهاره، ورفعة شأنه.
تتجلى الثقافة الوطنية بأشكال مختلفة، وتغتني بمحتويات جديدة، وذلك وفقاً لما تتعرض له الأوطان من مواجهات وأزمات، فهي في ظروف الاحتلال تختلف وظائفها عنها في ظروف التحولات الاجتماعية والفترات الانتقالية.
ارتبط مفهوم الثقافة الوطنية – القومية في منطقتنا بمرحلة النضال ضد الاستعمار القديم والحديث، فحملت لواء التحرر الوطني، والاستقلال، والسيادة، وكانت سلاحاً من أسلحة الدفاع عن صيانة الهوية الوطنية الحضارية، ووسيلة من وسائل المواجهة الضارية ضد المحتلين على امتداد تاريخ الصراع معهم في منطقتنا، فكانت المعبر عن طموح الإنسان في مقاومته للاستعمار بكل أشكاله، كما تصدت الثقافة الوطنية للصهيونية المتحالفة مع الرأسمالية العالمية ورأس حربتها الرجعية المحلية، بتواطئها ومختلف تجلياتها وعباءاتها ووجوهها المستعارة.
الثقافة الوطنية لا تكتسب صفتها إلا بمقاومة كل أشكال التبعية والذيلية والاحتواء ومحاولات تفتيت الشخصية الوطنية، بعزل تلك الشخصية عن مكوناتها: اللغة، التاريخ، العادات، التقاليد، (الانتماء إلى الوطن).
في خضم الصراع من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، اغتنت حركة التحرر بمحتوى اجتماعي، فواكبت الثقافة الوطنية هذا المسار (الوطني الاجتماعي)، فرفضت الاستغلال الطبقي، وواجهت القهر السياسي، والإذلال الاجتماعي، ودعت إلى توزيع عادل للثروة، وإلى مساواة المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات.
استحقت الثقافة الوطنية اسمها برفضها الجمود، والسكون، والثبات، ودعوتها إلى إعادة النظر في المفاهيم والأفكار التي تقادمت بفعل الزمن، كما ألحت على مشروعية السؤال، وغذّت تعدد الأجوبة، وعارضت إحالة مصير الإنسان إلى قوى غيبية وأقدار مجهولة، تحد من قدرته على معرفة واقعه وكشف طبيعة قواه المحركة، وقراءة ماضيه، ورسم مستقبله، متسلحاً بالمنهج العلمي في التفكير، مسترشداً بأفضل ماتوصلت إليه البشرية من إنجازات، دون انغلاق أو شعور بالنقص، كما أنها ساهمت في إنهاض المجتمع، والعمل على تقليل الهوة المعرفية، بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وقاتلت من أجل إقامة نظام عالمي عادل.
الثقافة الوطنية لا يمكن إلا أن تحارب الجهل والتخلف، وتدعو إلى التفاؤل، وتشجب اليأس، والعدمية، والسلبية، ومحاولات التنميط والتذويب، كماأنها تبتعد في الوقت نفسه عن التقوقع والعزلة، بانفتاحها المدروس والمقونن على العالم.
وحدة الوطن أساس التنمية، والعلاقة بين الوطن، والشعب، والمؤسسات: (الدولة الوطنية) هي المهاد الذي فيه يمكن أن تترعرع الحريات العامة وتتحقق الديمقراطية. والعدالة الاجتماعية. فالثقافة الوطنية هي الضامن والمساعد على تشكيل وعي وطني يحترم المواطنة ويصون العلاقة (العروة الوثقى) بين الوطن وأبنائه، فلا كرامة ولا حرية للمواطنين إلا في وطن حر سيد، ولا سيادة ولا استقلال لوطن يسترقّ أبناءه ويهدر جهدهم وعرقهم، وينتقص من حقوقهم.
الثقافة الوطنية تصون الاختلاف وتحمي التعدد، وتحافظ على التنوع، في إطار وحدتي الإرادة والفعل، مبنية على وحدة وطنية، بعيدة عن الاحتواء والإقصاء والإلغاء، قوة كل فصيل من مكوناتها مناعة للجميع. الثقافة الوطنية هي كل مايساعد على بناء وطن حر، سيد، متماسك، تتحقق فيه إنسانية الإنسان، وتشبع فيه احتياجات المواطنين المادية والمعنوية.