درغام يتابع خـُطا ميالة في قيادة المركزي

 خَفَتَ فجأة بريق المضاربين على الليرة السورية، لم يعد لهم حضور قوي. اختفى ذِكْرُ هؤلاء من التصريحات الحكومية، وأعفوا من تهمة تتعلق بدورهم في خفض سعر الليرة، والتأثير سلبياً بسوق الصرف. بالمكيال ذاته، يمكن القياس على شركات ومكاتب الصرافة، التي نسيتها البيانات الجافة، والتصريحات المقتضبة، التي يصدرها المصرف المركزي، في معرض تخبطه في تبرير أزمات سعر الصرف.

سعر الصرف حالياً، ليس في أفضل حالاته، وهو غير مستقر، والليرة مازالت تزحف على بطنها، وتخسر ببطء ما تبقى لها من قيمة، لا تتجاوز 10 بالمئة. لكن الاختلاف الظاهر هو في آلية التعاطي، التي لها دور جوهري، في القضية النقدية.

أغلق المصرف المركزي أبوابه، أمام أية محاولة أو رغبة لاستيضاح الأمور، بدا بناؤه في ساحة السبع بحرات، قلعة يحرسها الترقب، تخفي بداخلها قصصاً وروايات مختلفة، وفي مكاتبها أشياء لا يمكن تفسيرها أو احتمالها. جعل الحاكم السابق للمركزي أديب ميالة من المصرف مؤسسة مغلقة، موصدة النوافذ. هكذا كان المشهد النقدي: قبضة حديدية، وتعاطٍ سلبي مع سعر الصرف، كان حصيلته مزيداً من التدهور في قيمة الليرة. وعندما أصبح الغياب الرسمي للمصرف المركزي وحاكمه أفضلَ من الظهور، وصلنا إلى القناعة التامة بأن المركزي فقدَ قوّته، نتيجة سوء إدارة الأزمة، والليرة لم تعد ليرة، فهي ضعيفة، وغير متينة. آنذاك، كان من السهل مهاجمة المضاربين الوهميين، ومواقع إلكترونية تضع من جملة خدماتها للناس، درجات الحرارة المتوقعة ومواعيد رحلات الطيران، إلى جانب أسعار الصرف. أنكر المركزي الثورة التكنولوجية، لم يستطع محاكاة عالم الإنترنت، غيّب نفسه عن سرعة إيصال المعلومة، وظل مقتنعاً أنه سيد أسعار الصرف في البلاد، من خلال بيان يصدره، ونشرة أسعار تحدد قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية. لكن الأبواب الخلفية، والنوافذ التي يتسرب منها الريح، باتت أكثر حضوراً وقوةً في عالم العملات. الشاشات الموجودة في مكاتب بالمرجة وسط دمشق أو غيرها، كانت قادرة على التحكم بسعر الصرف، أكثر من المركزي. انفصل المركزي عن الواقع، وبدأ يكيل التهم للمضاربين، وشركات الصرافة ومكاتبها. إلا أنه يتعامل مع الأخيرة، رغماً عنها، ويفرض عليها شراء شرائح القطع الأجنبي، التي يطرحها في المزادات وجلسات التدخل. ازداد يقين حاكم المركزي السابق بوجود مؤامرة ضد الليرة، لكنه أعفى نفسه وإجراءاته من مسؤولية تراجع قيمة الليرة، ورمى بها إلى ملعب الناس، متهماً إياهم بالجهل وقلة الوعي، لأنهم ينقلون مدخراتهم من الليرة إلى العملات الأجنبية.

تستمر الأسباب والظروف التي ساقها الحاكم السابق لتبرير انخفاض سعر الصرف. مازال المشهد السياسي كما هو تقريباً، والعمليات العسكرية متتابعة، خسارة هنا، ونصر هناك. اقتصادياً، تبدو الأوضاع متطابقة، اقتصاد متوقف عن الإنتاج، إضافة إلى اتساع دائرة الشك والاتهام بين رجال الأعمال والحكومة. يطالب التجار بمزيد من التسهيلات للحصول على إجازات الاستيراد، والصناعيون فقدوا الثقة بإمكانية إعادة تشغيل معاملهم، وتزويدهم حكومياً بالدعم اللازم لاستيراد المواد الأولية، وحماية منشآتهم، ومراقبة الأسواق التي غزتها السلع والمنتجات تهريباً. الزراعة في حالة يرثى لها. كما أن الطلب على القطع الأجنبي في السوق السوداء، مازال ثابتاً، وحيتان هذه السوق، هم الطلقاء. حتى أصحاب شركات الصرافة الذين اتهموا بمخالفة تعليمات المركزي، خرجوا من هذه الدائرة، كما تخرج الشعرة من العجين. هذا ليس تبرئة لتلك الشركات، لكنها الحقيقة المريرة التي حاول  المركزي وحاكمه السابق تجاهلها، وتغييبها عن الناس. الملف الأخطر في قضية الليرة وأسعار الصرف، هو تبديد احتياطي القطع الأجنبي، بلا طائل، إضافة إلى أن الحاكم السابق كان عرّاب خروج 24 مليار دولار إيداعات مصرفية إلى لبنان.

الآن ما يجري في المركزي لا يختلف كثيراً عن السابق، ومقترحات الحاكم الحالي دريد درغام، التي قدمها للحكومة، تؤكد أن قدر السوريين، أن يبتلوا بمسؤولين  لأهم مؤسسة نقدية في البلاد، بعيدين عن الواقع النقدي، في طروحاتهم، ومعالجاتهم للقضايا الشائكة. فبدلاً من البحث عن الطرق الملزمة للمصارف الخاصة، لاسترجاع ما هربته لمصارفها الأم، من إيداعات السوريين، لإعادة استثمارها وطنياً. نقرأ مقترحات لدرغام تتعلق بوقف التعيين في المؤسسات العامة لضغط النفقات ووقف الهدر. هذه ليست فكرة اقتصادية جذابة، كما أنها ليست قضية نقدية. لعبت الدولة في سورية دوراً اجتماعياً مهماً، والآن يبدو هذا الدور على غاية من الأهمية، ولابد من المحافظة عليه.

النقلة النوعية التي يمكن الحديث عنها، تتعلق باستثمار كل إمكانات العاملين، والاستفادة من القدرات الكبيرة للقوة العاملة. أما المقترحات التي قدمها درغام، ومنها زيادة تقنين الكهرباء، فهي تشبه تماماً، العودة إلى طروح فترة 2005 ـ ،2010 بكل ما حملته من مقدمات أولية للتخلص من قوة الاقتصاد الوطني الإنتاجية، والذهاب بالبلاد إلى اقتصاد ريعي خدماتي. إذ لا يختلف ميالة بإدارته للأزمة النقدية، عما يبشر به درغام. فالواقع الصعب والمعقد الذي يعاني منه الاقتصاد السوري، يحتاج فقط إلى تطبيق جدي وصارم، لأفكار ملقاة على قارعة الطريق، تبحث عمن يلتقطها، ويبدأ بتنفيذها. حوّل الحاكم السابق للمصرف المركزي، هذه المؤسسة المهمة، إلى مؤسسة ضعيفة، أدارها بعقلية غير نقدية، جعلها متهمة، وبدّد استقلاليتها، والآن يسير الحاكم الحالي على الطريق ذاتها، وينزلق بالمركزي إلى الهاوية.

العدد 1136 - 18/12/2024