المصارف الخاصة ابنة مدللة للحكومات.. حان وقت الإقراض الإنتاجي
يثير التسامح الحكومي مع المصارف الخاصة الانتباه. الكرم الرسمي، في ترك هذا القطاع يعمل بمزاجه، يستدعي التوقف قليلاً، وإغلاق باب الإهمال والتجاهل. تكتفي هذه المصارف في عملها بالحد الأدنى. تعيش على الهامش. هي غير مندمجة بالاقتصاد، وتبدو أنها خارج السياق العام للتنمية المطلوبة. لا تبحث عن زبون ليقترض، وتنتظر من يطرق بابها فقط. أخذتها العدوى من المصارف العامة، التي تعمل بعقلية أي مؤسسة أخرى. إذ انتهى العصر الذهبي الذي عاشته في السوق المحلية، قبل 2011، دون تدخل حكومي يطلب منها أن تكون شريكاً اقتصادياً، وممولاً للتنمية. سنوات العسل القليلة التي أمضتها المصارف الخاصة، جعلتها تحافظ على أرباح جيدة، من عمل مصرفي بسيط. انطلاقتها التي حظيت بكل الدعم، تحتاج الأن إلى وقفة تقويمية، وقرارات حازمة بالتشارك معها، لتبيان موقفها من العمل الاقتصادي. هل ستبقى محافظةً على موقفها الحيادي؟ أم أنها راغبة في الانخراط بالعمل الاقتصادي والتنموي؟
الباب الذي فتحته الحكومة للعمل المصرفي- على أهميته- يحتاج إلى حارس قوي، بفكر تنموي، وبرؤى مستقبلية واضحة، ونهج رشيد، وتعاون وتكامل في الأدوار. المصارف التي التقطت اللحظة، واستثمرت الفرصة، من المناسب أن تخطو خطوات للأمام. وأن تقدم للسوريين، ما يحتاجونه من العمل المصرفي. وأن تنفق الكثير من الوقت، لتوطين المدخرات، وأن تكفّ عن تهريب القطع الأجنبي، وأن تشجع الزبائن على الاقتراض، بمثل قوة تشجيعهم على الادخار.
ربحت 10 مصارف خاصة في النصف الأول من العام الجاري 74 مليار ليرة، فيما مصرف واحد لم يفصح عن ربحه، وبلغت موجوداتها 1029 مليار ليرة. هذا الإنجاز اقتصر على عملين اثنين: تمويل المستوردات، وفوارق سعر الصرف. وفي العمق، هذا ليس عملاً مصرفياً بحتاً، إنه أقرب إلى المضاربة، واغتنام الفرص. لم تستثمر هذه المصارف كل المقومات المتاحة في الاقتصاد الوطني، لم تنبش المخبوء، استمرأت الأرباح الريعية، وهي مهمّة ويسيل لها اللعاب. الحكومات المتعاقبة تركت هذه المصارف تضع خططها، دون الالتزام بالخطط الخمسية. لم تلزمها بالتماهي مع رغباتها في خلق التنمية، عاملتها كالابنة المدللة في الاقتصاد، استجابت لمعظم شروطها، دون أن تطلب منها طلباً واحداً يتعلق بالمشاركة الفعلية في النهوض بالاقتصاد الوطني. وهو الشرط التاريخي المتفق عليه، بأن الاقتصاد السوري، هو اقتصاد إنتاجي بامتياز: صناعياً وزراعياً. وتأتي بقية القطاعات، كمتممات ضرورية، ولواحق مهمة له. أبدت المصارف الخاصة عزوفاً مثيراً للتساؤل، حول مشاركتها المرتقبة في التنمية. التزمت الصمت العملي، وتحدثت عن مجرد رغبات في هذا الشأن. وإن كان فتح الجروح القديمة هنا لا ينفع، إذ لا يمكن تعويض ما فات من قصور في العمل، فإن مساءلة إدارات هذه المصارف أمر حتمي، لإشراكها في العمل التنموي المستقبلي.
الدول التي تسمح للمصارف الخاصة بالعمل، تطالبها بخطة إقراض واضحة، وتناقشها مع إدارات هذه المصارف، وتحصل على إجابات شفافة، تتعلق بالنسب المئوية لحجم الإقراض السنوي لكل قطاع على حدة. وتنطلق هذه الإجابات، من خطط الحكومة ذاتها، ومن مشاريعها المقترحة، ومن تطلعاتها التنموية، وعملها في تنشيط الاقتصاد. فهل تفعل حكومة عماد خميس ما تجاهلته الحكومات السابقة في هذا الشأن؟ لا مناص من الغوص في هذه القضية، المحفوفة بالمخاطر، والتي تلزم المصارف الخاصة بما يمكنها فعله، وأن تكفّ عن ممارسة دور مهرّب المال إلى الخارج، أو عرّاب هذه القضية. لم يعد مقبولاً، أن تعتاش المصارف الخاصة على الفوارق الرهيبة في أسعار الصرف، أو أن تمتص ربحاً ناتجاً عن مزيد من تدهور قيمة الليرة. تعلم المصارف أن الليرة لم يعد لديها ما تخسره، وأن مشاركتها في العملية التنموية، تعود عليها أولاً بالربح، وأن صمتها الذي لا يطاق، وحياديتها غير البليغة، تحتاجان إلى جرأة لتخطي الخوف من الإقراض.
تتبارى المصارف الخاصة فيما بينها، لجهة تسجيل نقطتين أساسيتين: المصرف الأول في الأرباح، وكذا في حجم الإيداعات. هذه مسألة مهمة، تندرج ضمن أهداف المصارف ذاتها. بينما السماح لهذه المصارف بالعمل، من وجهة نظر اقتصادية وحكومية، يحتم عليها أن تكون شريكاً ممولاً للمشاريع التنموية. القضية الجوهرية هنا، التي يجب التركيز عليها هي: من هو المصرف الأول في تقديم القروض الإنتاجية؟ من المهم جداً أن تربح المصارف الخاصة، السبب الرئيس لعملها في السوق السورية هو ربحها، ومدى استفادتها، لكن السؤال: من ماذا تربح؟ في اجتماع عقد الشهر الماضي في رئاسة مجلس الوزراء لمناقشة عمل المصارف، العامة والخاصة، التزم المديرون التنفيذيون للمصارف الخاصة الصمت، لم يتحدثوا بشيء، وهذا ما يحيّر، إذ إنها مصارف موجودة في السوق، ولها حصة وازنة منها، ولا تلتزم بمتطلباتها التنموية.
لن يكون بمقدور هذه الحكومة أن تقول لمصرف لا يشارك في التنمية أن يذهب ويصفّي أعماله، وقطعاً هذا ليس مطلوباً، بخاصة في هذه المرحلة. إلا أنه من الحتمي، أن تتخلى الحكومة، عن سياساتها اللامبالية، تجاه عمل المصارف الخاصة.