فلسفة المعنى.. من خطاب الإبداع إلى خطاب الثقافة

 منذ كتابه المؤسس في نظرية المعنى دأب الكاتب والناقد مصطفى ناصف على استبطان غير نظرية في المعنى، وذلك ما كان خلاصة الأبحاث التي استقرأت من جديد مدونة الشعر العربي، بوصفه إرثاً تراثياً لم يؤخذ بكليته وإنما ذهبت كثير من المقاربات الجادة إلى الوقوف عند تعبيرات العلاقة الشعرية، وأكثر منها ما اصطلح عليه بحداثة الرؤيا، وهكذا وجدنا، بفعل تحقيب متصل ومنفصل في الآن عينه، وفي ظل تلك المحاولات بطبيعتها النقدية/ التحليلية، للانتقال من خطاب الإبداع إلى خطاب الثقافة، كان المعنى يتلامح كفلسفة ترقى إلى نظرية أيضاً، لم تنفصل أبداً عن سياقها التاريخي-التراكمي، وصولاً إلى لحظة المعاصرة التي تعني من جملة ما تعنيه الوقوف عند دالات الثقافة وصورتها وتحولاتها، ومن جهة أخرى الوقوف عند إبدالاتها في الوعي والذائقة وكثافة التأسيس، ما يعني العودة إلى ما اُستُبطن من فلسفة ثاوية في الخطابات، فلسفة تخترق أنساقها ومكوناتها وبنياتها، لتصل إلى عناوين دالة وجدناها في الحياة الثقافية، ومنها ما أسهم به د. محمد الزايد، الكاتب والمنظّر الذي جهر بصياغة ما أسماه بفلسفة المعنى بوصفها نظرية، فكتب (الموت والبحث عن المعنى، المعنى والعدم)، فضلاً عما ضايفه المفكر أنطون مقدسي في إسهاماته الفكرية والنظرية.

ويرى د. محمد الزايد: (أن فكر فلسفة المعنى ليس محايداً، انطلاقاً من أن الإنسان هو مركز الكينونة وسيد الكائنات- في ضعفه وقوته معاً- كذلك الفلسفة مركز المعرفة… فالمركز الذي يدّعي الحياد يفقد ماهيته ويحكم على ذاته بالتهافت والتبعثر).

ولكن لنا أن نتساءل في سياق تلك الأطروحات الجدلية حقاً، التي تعيدنا إلى أواليات العلاقة مع الشعر على سبيل المثال، كيف تقرأ الفلسفة الشعر؟

فيما مضى كان لكتاب ماريا ثامبرانو الباهر عن علاقة الشعر بالفلسفة بوصفهما حدّين متناغمين وكل منهما يشي بالآخر، تأثيره اللامحدود في الذائقة الأدبية والوعي الأدبي، وذهبت كثير من الاستخلاصات عن تلك العلاقة لترى بقضية شديدة الحساسية والأهمية أيضاً وهي الرؤيا، ومنها إلى اشتقاقات قصيدة الرؤيا وتجلياتها التمهيدية في مجلة (شعر) اللبنانية في منتصف القرن الماضي.

في هذا السياق يقول- الزايد- (ليست قراءة الفلسفة لشعر، نقداً أو تحليلاً أدبياً… قراءة الفلسفة للشعر مشروع رؤيا، لأن الشعر بدءاً هو فتنة الكلمة، والفلسفة بدءاً هي عقل الكلمة وفتنة كبريائها) ليخلص إلى الجوهر فيما يطرحه بالقول: (كل قراءتي للشعر ملونة بأمنية سرية للتماثل معه، أن يكونه، تقرأ الفلسفة الشعر وتتقرى رؤاه وتحاوره، تعشقه لأنهما توأمان، لكن مفارقات روح ثقافة العرب (إيديولوجيتها) رسمت لها قدرين متعاكسين)، بمعنى العودة مجدداً إلى المطلق في القول من مثل (شعر وآية، أو شاعر ونبي، أما الفيلسوف فثالث مريب، مضمر سري، مصلوب منذ البداية، لقد علق العرب شعرهم فوق كعبتهم بعد كتابته، كما تقول الروايات، بماء الذهب).

وعلى الأرجح إن ما يهم الذائقة الجمعية والفردية معاً في هذا السياق، هو كيف يُنتج المعنى؟ الذي تتضافر له غير حقول معرفية مازالت تتوسل بالشعر كي تُعلَلَ دلالة الانفتاح في الأجناس الإبداعية على حركة الثقافة، ومدى ما تؤول إليه، ليس تعريفاتها واجتهادات المفكرين والباحثين في سبيل نظرية للمعنى من خلالها، بل أكثر من ذلك تطور مدلول الثقافة عبر غير مرحلة تاريخية، ربما يُرجعنا الكاتب- هاري ليفن- إلى واحدة من دلالاتها القصية، حينما يشير بفطنة وانتباه إلى تحديد تاريخي لعبارة الثقافة، اتكاءً على رواية سرفانتس (دون كيشوت) مقتبساً مقطعاً سيصبح له العديد من التأويلات الثرية: (إنك تصبح يوماً بعد يوم يا سانشو).

قال دون كيشوت متابعاُ: (أقل بلاهةً وأكثر إدراكاً، لا بد من أن بعضاً من حصافة سيادتك يصقلني، أجابه سانشو: فالأراضي التي هي أصلاً قاحلة ومجدبة، إذا سُمدت وحُرثت تعطي محصولاً وفيراً، إن ما أنوي أن أقوله هو أن حديث سيادتك، هو السماد الذي نُثر على التربة المجدبة لعقلي القاحل، والزمن الذي قضيته في خدمتك وصحبتك، كان بمثابة الحراثة).

ومن الواضح أن (سانشو) كان يتطلع إلى المستقبل أكثر من سيده المتواضع، وبمعنى آخر إن الثقافة هنا هي حصيلة تراكم الوعي، وفي التراكم نعود للمعنى الذي لا يقدم بوصفه ناجزاً، إنما هو حصيلة تاريخية وفكرية تأخذ أفعال الثقافة من الإمكانية المجردة إلى الإمكانية الواقعية، أي من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.

وهكذا فإن مآلات المعنى لن تتوقف عند ما اجترحته الذائقة الأدبية وسدنتها، بل هي في ضوء ممكنات المستقبل، حينما نذهب إلى حصيلة الثقافة في تجليات الإبداع وأجناسه كافة، وعليه فإن صورتها القائمة على وعي تطورها التاريخي ستصبح منجزاً جمعياً لا فردياً بعينه، على الرغم من أهمية ما ينجزه الأفراد في ضوء الثقافة.

والمعنى هنا سواء ما تجلى في نظرية أو فرضية أو أطروحة، هو السبيل إلى تغير طرائق التفكير، وجدلية هذا التغير الذي تأخذنا إلى أن ننتج فهماً للمعنى، فهم يعني إعادة التأصيل في جدوى الذاكرة الجمعية، وتحرير المعنى فيها الذي لا ينتهِ في ذلك التساؤل الذي قال يوماً: هل المعنى في قلب الشاعر ذاته؟ أو لعل الأفكار التي قال بها الأعرابي والأعجمي من أنها على قارعة الطريق، لم تكن سوى معاني مازالت تحفز على التقاطها، فهي الجاذبة لكل تأويل معاصر لا تنقطع سيروراته عن الماضي، لكنها الأكثر انفتاحاً على المستقبل لتكون حداثة التنوير، في أصلها الحواري هي حداثة المعنى ذاته.

العدد 1140 - 22/01/2025