الانقلاب الأخير يُعمّق المأزق التركي

بداية تجدر الإشارة إلى أن تركيا عرفت عدة انقلابات قام بها الجيش التركي الذي يعتبر نفسه حارساً لمبادئ (أتاتورك). الانقلاب الأول في شهر أيار عام 1960، وجرى فيه إعدام عدد من الوزراء، والثاني في شهر آذار 1971 وسمي آنذاك (انقلاب المذكرة)، لأن رئيس أركان الجيش سلّم مذكرة خطية لرئيس الحكومة بالمطالب.. والانقلاب الثالث في أيلول 1980 وكان الأكثر دموية في البلاد، فقد أُعدم أكثر من خمسمئة شخص على إثره، واعتقل الآلاف وانتقل إلى المنفى على أثره أكثر من 30 ألف شخص.. أما الانقلاب الرابع فكان عام 1997 وسمي (ثورة)، بعد أن أُغلقت مدارس تحفيظ القرآن. أما الانقلاب الأخير الذي وقع في 15 تموز الحالي فأمره مختلف وملابساته غير واضحة حتى الآن..

على أي حال سواء كان حركة عسكرية لإزاحة أردوغان أو للإطاحة به، وتصحيح مسارات السياسة التركية الداخلية أو الخارجية، أو كان- كما يقال- مسرحية أردوغانية تهدف إلى إيجاد مخارج للمشاكل الداخلية في تركيا، فإن الانقلاب هزّ صورة السلطنة العثمانية الجديدة التي عمل أردوغان ومايزال يعمل على رسم معالمها منذ وصوله إلى الحكم، ولم تعد تركيا بلد المؤسسات الذي تُحترم فيها القوانين والأنظمة من الجميع كباراً وصغاراً، ويتم فيها تداول السلطة.. إذاً كل هذا قد انتهى أمام مشهد الانقلاب وما تبعه حتى  الآن من اعتقالات وطرد موظفين وتسريح عسكريين.. إلخ.

لقد دأب أردوغان خلال السنوات الماضية على شن حملات تطهير للمؤسسة العسكرية، بحيث يجعلها مطواعة له مئة بالمئة، كما فعل بالقضاء وبالصحافة، فساق مئات الجنرالات والضباط إلى المحاكم والسجون بعد طردهم من الخدمة، مثلما ساق النواب المعارضين لسياسته إلى المحاكم.. كذلك رفع آلاف الدعاوى بحق الإعلاميين، ولكن في النهاية جاء الانقلاب ليؤكد فشل كل الإجراءات السابقة لأردوغان، فالجيش بقي قسم كبير منه معارضاً له، ولفكرة السلطان الأوحد، مقابل ذلك، أي بالنسبة للرأي القائل بأن أردوغان افتعل الانقلاب من أجل القضاء على معارضيه (وهذا ما لم يتأكد بعد، بل ستكشفه الأيام القادمة، لو ثبت تورط أردوغان بهذا الانقلاب، فإن ذلك تأكيد للرؤية القاصرة لجماعة الإخوان المسلمين، لأن نتائج أي انقلاب عسكري ستعرّض الجيش للانقسام، وتسيء إلى هيبته التي اكتسبها وبناها بصورة تراكمية.. هذا إضافة إلى أسلوب التعاطي مع الانقلاب بالضرب بيد من حديد، فالاعتقالات شملت ستة آلاف تركي خلال 36 ساعة لكبار ضباط الجيش ولرموز في السلطة القضائية، إضافة إلى ممارسات ضد الجيش وُصفت بأنها (داعشية)، أي ذبح الجنود وسحلهم في الشوارع وإسقاط الطائرات المشاركة في الانقلاب، كل ذلك خلال أقل من 24 ساعة، الأمر الذي لفت أنظار العالم حتى الدول الحليفة لأردوغان.. وعلى سبيل المثال ما قاله وزير الخارجية الفرنسي مارك إيرولت: (إن ما جرى لا يمنح أردوغان شيكاً على بياض لممارسات التطهير لصالحه).

في المحصلة يمكن تسجيل بعض النقاط والملاحظات حول الانقلاب المذكور منها:

– إن الانقلاب عمّق المأزق التركي، وجعله خاضعاً لعدة احتمالات.

– إن تصرفات أردوغان أثناء الانقلاب وبعده كانت خارجة عن المألوف وبدا السلطان من خلالها متوتراً وهائجاً إلى حد كبير.

– لقد اهتز عرش أردوغان بشدة، وتعرضت صورته في الداخل والخارج لكثير من التشويه والنقد الجارح.

– إن هذا الانقلاب ستكون له تداعياته وانعكاساته الكبيرة على الداخل التركي، وعلى مكانة تركيا ودورها في المنطقة والعالم.

إذا أراد أردوغان عدم تكرار ما حصل، فعليه أن يعيد النظر بحساباته في الداخل تجاه الأكراد، وفي الخارج تجاه سورية والعراق، بعيداً عن إيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين.

العدد 1140 - 22/01/2025