تقرير (تشيلكوت).. جرائم موصوفة من دون عقاب؟
تقرير السير دون تشيلكوت احتوى على نواقص كثيرة، وكانت لغته الدبلوماسية مهذبة غالباً ومضللة أحياناً.. برّأ ساحة (توني بلير) وحكومته وأجهزته من تُهم تزوير الحقائق وتضليل الرأي العام، وانصياعه للإملاءات الأمريكية التي ضربت طوقاً من السرية حول مباحثات بلير مع بوش الابن ومكالماته، في المفصل الأهم في ملف الحرب الأمريكية- البريطانية على العراق.. ولكن رغم كل هذه النواقص والثغرات سيظل تقرير (تشيلكوت) وثيقة يمكن البناء عليها حاضراً ومستقبلاً، بل ويمكن حسب خبراء قانونيين الاستناد إليها لجلب الجناة إلى العدالة الدولية.
ما يتضح اليوم قبل التقرير وبعده خاصة، أن العالم كان أمام (عصابة جريمة منظمة) اتخذت قرار الحرب مبكراً، وحين عجزت عن إيجاد مبررات له، عملت على (فبركتها) ضاربة عرض الحائط بكل ذيول الحرب وتداعياتها وأكلافها البشرية والمادية والاجتماعية والإنسانية المستمرة حتى يومنا هذا، بل وحتى زمن قادم غير منظور.. (عصابة) تذكّر بأفلام الغرب الأمريكي ولا تتورع عن استخدام قاموسه الحافل بالبذاءات.. وجدت لها (تابعاً) في لندن وضع عرض الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تحت نعال (المارينز) كاوبوي العصر الحديث.. إنه (طوني بلير) السياسي البريطاني الذي اشتهر سمساراً للنفط والغاز في المنطقة العربية، ومتمّماً لوعد أسلافه في إقامة وطن قومي لليهود على كامل أرض فلسطين.. مندوب اللجنة (الرباعية الدولية) الذي مُنح هذا المنصب من قبل واشنطن مكافأة نهاية خدمة لما قدمه لها من خدمات جليلة طيلة رئاسته للحكومة البريطانية، حيث كرس كامل صلاحياته وخبراته لقتل الروح الكفاحية للشعب الفلسطيني وتطويعه على مقاس مشاريع (نتنياهو وليبرمان).
لن نتوقف كثيراً عند مسألة ما يمكن لعائلات الجنود البريطانيين الـ(179) الثكلى، كما ينوح الإعلام الغربي والعربي، فتلك قضيتهم، فهم من جاء بـ(بلير) وهم من أخرجه من السلطة وبيدهم أمر مقاضاته من عدمه.. ما يهمنا كعرب هو مصير العراق والمنطقة اللذين عاث بهما بلير فساداً وقتلاً وتدميراً، وأحالهما من حواضن للحضارات والأديان والثقافات إلى خرائب ومجتمعات ممزقة، وحواضن للإرهاب والأصولية المتشددة، بعد أن هدم الدولة العراقية بأجهزتها ومؤسساتها، وزرع الفتنة الطائفية والمذهبية، عملاً بنظرية أجداده..
ما يهمنا كعرب هو مصير مئات ألوف العائلات العراقية الثكلى التي ما كانت لتواجه هذا المصير لولا وجود (أصحاب الفخامة والسيادة) من مجرمي الحرب في البيت الأبيض الأمريكي والحكومة البريطانية خلال تلك المرحلة الأحرج في تاريخ المنطقة العربية، وما يلفت النظر يؤسف له في الوقت نفسه، أن بعض السياسيين والمحللين والمثقفين العرب قد جعلوا من مناسبة صدور التقرير فرصة للإشادة بالديمقراطية الأنجلوسياكسونية، من دون أن يروا في التقرير مناسبة للتوقف عن الكيفية التي أدير بها قرار الحرب على العراق، وكيفية جمع (الأدلة) أو بالأحرى (فبركتها).. من دون أن يروا الاستخفاف بدماء أبناء العراق وبناته، وحياتهم، بل من دون أن تستفزهم تصريحات (طوني بلير) المعقّبة على التقرير، والتي امتنع فيها حتى عن مجرد الاعتراف بخطأ قرار الحرب أو الاعتذار عنه، حتى أن الصلف والعنصرية والكراهية قد بلغت به حد القول، بأنه ليس نادماً على قراره، وأنه سيفعل أمراً مماثلاً، فيما لو قدر لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء.
إن صدور تقرير تشيلكوت يستدعي الغوص في أعماقه وتقليب كلماته التي زادت من المليونين وستمئة ألف كلمة، لا للاحتفاء بالديمقراطية البريطانية المزيفة، بل من أجل أخذ قضية الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق وما تلاهما وترتب عليها، إلى مرحلة أعلى من المحاسبة والمساءلة، ووضع كل تفاصيلها الدامية والمدمرة أمام العدالة الدولية، حتى لا يكون الأمر أننا أمام جريمة موصوفة من دون عقاب وحتى لا يفلت الجناة والعابثون بمصائر الأوطان والشعوب من العقاب الذي يستحقونه.
ولكن مع الأسف، يد العدالة الدولية طويلة حين يتعلق الأمر برئيس عربي أو مسؤول عراقي أو سوري، ولكنها قصيرة حين يتصل الأمر بالجناة ومجرمي الحرب الكبار أمثال بوش الابن وبلير ونتنياهو وغيرهم.