كي لا ننسى…أحمد مدراتي.. مناضل انبثق من أعماق الشعب

أحمد مدراتي (أبو بكري)، مناضل حلبي انبثق من أعماق الشعب، وُلد عام 1933 من عائلة كادحة في أحد الأحياء الشعبية من حلب، ولقد انخرط باكراً جداً في معركة الحياة القاسية التي لا ترحم، كي يعيل نفسه ويساعد عائلته. عاصر وهو فتى المراحل الأخيرة من الاستعمار الفرنسي وجلاء المستعمرين عن البلاد، والفرحة التي عمّت المواطنين السوريين، وتحولت إلى مهرجانات شملت مختلف المناطق السورية، كانت تعبر عن وحدة البلاد ووحدة الشعب.

لقد جاء هذا الجلاء نتيجة نضال مختلف شرائح الشعب خلال خمسة وعشرين عاماً، والتضحيات التي قدمتها على هذا الطريق، وكان الشاب أحمد من المشاركين النشطاء في هذه الاحتفالات، وكان مشبعاً بالأمل في أن ظروفاً أفضل أمام سورية ستنشأ، وأن آفاقاً مزدهرة تلوح أمام قطاعات واسعة من الشعب السوري، وخصوصاً القطاع الشاب. بيد أن آماله لم تتحقق، فقد سعى الإقطاع وشرائح أخرى من المستغِلين الذين ارتبطت مصالحهم مع الاستعمار الفرنسي إلى استثمار نتائج الجلاء لمصلحتهم، ووقفوا عائقاً أمام تطور حر ومزدهر للشعب السوري..  الأمر الذي لم يؤد إلى تحسين ملحوظ لشرائح واسعة من الكادحين السوريين، وكان من بينهم الشاب أحمد مدراتي.

كانت تعمل في تلك الأوقات وخصوصاً في أوساط الطبقة العاملة في حلب منظمات شيوعية نشطة، وكانت تحظى بتأييد واسع بين أناس العمل.. وقد وجد اليافع أحمد مدراتي نفسه ينخرط تدريجياً في صفوف الحزب الشيوعي السوري، ووجد فيه معبّراً عن مصالح الجماهير الشعبية الواسعة. وقد أعطى الشيوعي أحمد مدراتي كل طاقاته من أجل خدمة الأهداف النبيلة التي كان يطرحها الحزب.

ومن خلال نضاله وجهوده التي لا تكل، أخذ المناضل الشاب يتبوأ مواقع متقدمة في الحركة  العمالية في حلب، وفي منظمة الحزب هناك.. ولقد تنقّل بين العمل العلني والعمل السري أثناء الديكتاتوريات، منفّذاً مهام الحزب بكل شجاعة وإخلاص..

تأتي الوحدة في عام 1958 وتُشَنّ حملة اعتقالات واسعة ضد الحزب الشيوعي السوري والقوى التقدمية الأخرى، شملت الآلاف على نطاق البلاد، وكان المناضل أحمد من جملة المعتقلين الذين نُقلوا إلى سجن المزة.. وقد تعرض للتعذيب والضغط من أجل البراءة من أفكاره التي يؤمن بها، ولكنه قابل ذلك بالرفض الحاسم.

تعرفت عليه عام 1959 في سجن المزة، شيوعي متواضع وإنسان مليء بنكران الذات، وقد ارتبطت معه بصداقة عميقة أساسها الاحترام المتبادل.. يأتي  الانفصال ويخرج المعتقلون من السجن، ويخرج أحمد مدراتي أيضاً، ويضع نفسه بتصرف الحزب، يصبح عضواً في اللجنة المنطقية في دمشق التي يوكل إليها إعادة بناء منظمة دمشق العاصمة، التي وجهت إليها ضربات كبيرة.. ويقوم الشيوعي أبو بكري بواجبه بكل تفان وإخلاص.. ونلتقي معه أكثر من مرة، أنا والرفيق نبيه جلاحج، وكان الحزب قد وضع أمامنا مهمة إعادة بناء منظمة المهاجرين والصالحية..

وفيما بعد كُلّف بمهام أخرى. كان متفرغاً حزبياً وأرسله الحزب إلى المدرسة الحزبية بعد العدوان الإسرائيلي على سورية عام 1967، ويعود إلى الوطن كي يشارك الحزب نضاله، إلا أن الأزمة التي انفجرت في الحزب، وأدت إلى تبعثره، آلمته جداً.

لم يكن ليستطيع أن يتخذ موقف العداء ضد أي رفيق آخر مهما كانت آراؤه مخالفة لرأيه، ولم يستطع أن يرى، لا فكرياً ولا سياسياً،  المبررات الكافية لبعثرة قوى الحزب، وكان يرى في ذلك إضعافاً لدوره وتراجعاً لتأثيره في حياة البلاد…آثر الابتعاد تنظيمياً، إلا أن حلمه بحزب شيوعي قوي وموحد ومؤثر ظل معه حتى آخر حياته، حين وافته المنية عام 1994.

إن ذكرى هذا الإنسان، هذا المناضل المتواضع، يجب أن تبقى ماثلة ويجب أن لا يطويها النسيان.

العدد 1140 - 22/01/2025